للسيّد الكتاني الحسني قدس الله سرّه ( من خبيئة
الكون)
وإن
أردت زيادة بيان في تحقيق عبودية حضرة الرسول الأعظم فاستمع لما يقال: هذه
الصديقية ابنة الصديق-رضي الله تعالى عنهما- لما سئلت عن خُلقه صلى الله عليه وسلم
قالت: «ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: فإن خُلق نبي الله كان القرآن»،
والحديث أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والدارمي وابن ماجه والنسائي.
فأشادت أولاً إلى غلط السائل؛ لأنه يفهم منه أن الأخلاق المحمدية محصورة فنبهته على أنها من أخلاق الله جل أمره الذي لا تنحصر؛ فلذلك قالت: كان خُلقه القرآن، والقرآن اللفظي الملفوظ به دال على النقوش، وهي دالة على ما في الدهر، وهو دال على المعنى القديم القائم بالذات الأقدس جل سلطانه ضرورة أن الشيء له وجودات أربع: وجود في العبادة، ووجود في الكتابة، ووجود في الدهر، ووجود في الخارج, فافهم.
فآل قولها: كان خُلقه القرآن إلى أنه اكتنف الشئون الإلهية واكتنفته فكان بالله، ولله، ومن الله، وإلى الله ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَوَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾ ، ﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ ، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ﴾ ، وإذا كان خُلقه القرآن, فمن أراد أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم عيانًا لمن لم يدرك عصر الصحابة, فلينظر القرآن الكريم من أوله إلى آخره فإنه خلقه، وقد رآه وقد تفطن لهذا الإمام السهروردي في العوارف, فقال في قول الصديقية: «كان خُلقه القرآن» قال: أرادت أن تقول كان متخلقًا بأخلاق الله فاحتشمت لوفور عقلها، وكمال أدبها، وشرح هذا يطول.
هذا وإن لعظم ما اكتنفته الذات المحمدية من تشعبات الأخلاق الإلهية, واشتملت عليه من علمنا بكل أمر يقوم به أمر العالم العلوي، والسفلي استعظم الحق جل مجده خلقه المحمدي بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ .
واعلم أنه تعددت مقالات الناس في وجه استعظام خلق هذا النبي العظيم.
فقالت الطائفة الأولى:
لكونك متخلقًا بأخلاق الله تعالى، وأخلاق كلامه وهذا يومأ إليه كلام السهروردي, فقال في عوارفه في قولها ذلك رمز غامض وإيماء خفي إلى الأخلاق الربانية فاحتشمت من الحضرة الإلهية أن تقول: «كان متخلقًا بأخلاق الله تعالى» فعبرت عن المعنى بقولها: «كان خُلقه القرآن» استحياء من سبحان الجلال وسترًا للحال بلطيف المقال، وهذا من وفور عقلها وكمال أدبها.
وقالت الطائف الثانية:
وكلمة «على» للاستعلاء, ودلت على أنه صلى الله عليه وسلم مستعلٍ عن الأخلاق الحميدة، ومستولٍ على الأفعال الجميلة، فلم يصل إليها مخلوق غيره حتى صارت بمنزلة الأمور الطبيعية له، ولهذا قال تعالى: ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ وما أنا من المتكلفين أي: لست متكلفًا فيما يظهر لكم من أخلاقي؛ لأن المتكلف لا يدوم أمره، بل يرجع إليه الطبع وللإنسان صورة ظاهرة لها هيئة يشاهدها البهر الذي هو في الرأس، وهي من عالم الملك وهي الشكل وصورة باطنة لها سيرة تشاهدها البصيرة التي هي في القلب وهي من عالم الملكوت وهي الخُلق, فكما أن لهيئته الظاهرة حسنًا، أو قبحًا صوريَّا، باعتبار أشكالها، وأوضاعها، وألوانها، فكذلك سيرته الباطنة لها حسن، أو قبح معنوي، باعتبار شعائرها وطبائعها، ومن ذلك قسموا الخلق إلى المحمود، والمذموم تارة، وإلى الحسين والقبح تارة أخرى، وكثيرًا ما يطلق، ويراد به المحمود فقط؛ لأنه اللائق بأن يسمى خُلقًا.
ومن هذا قوله تعالى عظيم وعليه قول الإمام الرازي: الخلق ملكة نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة، ونفس الإتيان بالأفعال الجميلة شيء، وسهولة الإتيان بها شيء آخر، فالحالة التي باعتبارها تحصل تلك السهولة الخلق وسمي خُلقًا لرسوخه، وثباته صار بمنزلة الخلقة التي جبل عليها الإنسان، وإن احتاج في كونه ملكة راسخة إلى اعتماد، وطول رياضة، ومجاهدة.
ولما كان -عليه الصلاة والسلام- خُلقه العظيم أعظم خُلق بواسطة كون عقله أوسع العقول بعثه الله جل أمره إلى جميع العالمين، وبهذا يعلم من قول الصديقية-رضي الله تعالى عنها وعن أبيها-: «كان خلقه القرآن»
أي: كمالات خلقه صلى الله عليه وسلم لا تتناهى، كما أن معاني القرآن لا تتناهي وأن التعرض لحصر جزئياتها غير مقدور للبشر، ومن ثم وسعت أخلاقه أخلاق أفراد أصناف بني آدم، بل أنواع أجناس العالم، ولذا أرسله الله سبحانه إلى العرب والعجم، والإنس والجن، وسائر الأمم، بل والملائكة والنباتات، والجمادات، بل وإلى الأنبياء والمرسلين-عليهم السلام- فإنهم من أمة سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات وإنما التحيات كما أنبأت بذلك آية: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍوَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِوَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْوَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواوَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾ .
ثم ما انطوى عليه صلى الله عليه وسلم من كرائم النشأة وعظائم الأخلاق لم يكن باكتساب ولا ترييض وإنما كان في أصل خلقته بالفيض الإلهي والإمداد الرحماني لم تزل إفاضاته عليه مفاضة فائضات وأنوار تجلياته، وإمداداته لم تزل عليه مشرقات طامحات، وكذا ذوات الأنبياء والرسل-عليهم السلام- ومن تفحص سيرهم علم هذا وتحققه إلى أن وصل سيدنا صلى الله عليه وسلم لما لا وراء ورائه لمقدورات البشر والأملاك, وكان من أجل ما أوتيه تتمنى وطأ أقدامه سكان الأفلاك .. إلخ.
وليعلم أن كمال الخُلق إنما ينشأ عن كمال العقل؛ لأنه الذي به تقتبس الفضائل وتجتنب الرذائل، والعقل لسان الروح وترجمان البصيرة، فهو جوهرة الإنس، ولكن جوهره البصيرة، والحديث المشهور: «لما خلق الله سبحانه العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: ما خلقت خلقًا أحب إليّ منك، بك آخذ وبك أعطي»
وعقل نبينا صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم وصل في الكمال إلى غاية لم يصل إليها ذو عقل، ومن ثم روى أبو نعيم وابن عساكر عن وهب أنه وجد في إحدى وتسعين كتابًا أن الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدأ الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم إلا كحبة رمل من بين رمال جميع الدنيا، ومما يقطع بذلك سياسته صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم للعرب الذين هم كالوحوش الشاردة النافرة النادة وصيره على طباعهم المتنافرة والمتباعدة كيف ساسهم، واحتمل جفاهم، وصبر على آذاهم، إلى أن قاتلوا دون أهاليهم، وهجروا في رضاه أوطانهم، وأحبابهم، مع أنه لم يطلع على سير الماضين، ولا تعلم من العقلاء المحدثين، وفي عوارف المعارف نقلاً عن بعضهم: اللب والعقل مائة جزء تسعة وتسعون في النبي صلى الله عليه وسلم وجزء في سائر المؤمنين.
قلت: ولا يطلع على معنى هذا إلا من علم تفاسير القرآن الكريم من أوله إلى آخره، وعلم إشاراته، وتلويحاته، وتلميحاته، وتصريحاته، وألغازه، ورموزه وعلم تشعبات خطاباته ووجوهها والمخاطبين بها، وكيفية التخاطب, واستعان على ذلك بعد إتقان هذه العلوم بالانخراط تحت مرتبة عارف كامل واصل؛ لأن ما وراء هذا لم يكشف إلا لهم، ولم ينصب على منصة الجلاء لغيرهم، وفك ما فيه من الطلاسم وانقشع عنه الغبار، فرأى ما فيه من العجائب، والعلوم، والإحاطة بما فيه صلاح العالم، والأولين، والآخرين، وكل ذلك أحاط به خيرًا سيدنا ونبينا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، وهناك يعلم جلالته المحمدية، وما ألبسته من جلابيب الكمالات، والمزايا والخصيصات، ولهذا عبر جل جلاله عن خلقه العظيم المحمدي باسم الجنس النكرة .
ولم يكتف تعالى بذلك حتى صرح بوصفه بالعظمة تأكيدًا وتحقيقًا بالضمن وتخصيصًا، وزيادة في معنى العظمة بالقصد الأول، فإن المفهوم من التنكير مطلق العظمة ومن الصفة غايتها.
فإن قيل: هلَّا قيل حينئذٍ أعظم ، قلنا: رعاية لرتبة الأخلاق الإلهية إذ الأعظمية المطلقة الغير النسبية، إنما هي لها وعلى قدر القرب من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على قدر التخلق بهذه الأخلاق والشيم .
وقالت الطائفة الثالثة:
إنما استعظم الحق جل ذكره خلق نبيه العظيم لما أنه أكشف مكارم أخلاق النبيين، والمرسلين فقد اجتمع فيه شكر سيدنا نوح، وخلة سيدنا إبراهيم، وإخلاص سيدنا موسى، وصدق وعد سيدنا إسماعيل، وصبر سيدنا يعقوب، وسيدنا أيوب، واعتذار سيدنا داود، وتواضع سيدنا سليمان، وسيدنا عيسى، وغيرها من أخلاق سائر الأنبياء عليهم السلام.
كما قال تعالى: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ إذ ليس هذا الهدى معرفة الله تعالى؛ لأن ذلك تقليد وهو غير لائق بمن يقتدر على الدليل الجملي، فضلاً عمن كان نبيًّا وآدم بين الروح والجسد.
فالقول بأن الهدى هنا التوحيد غفلة عما ينبئ عليه ولا الشرائع؛ لأن شريعته ناسخة لشرائعهم ومخالفة لها في الفروع، فلما لم يصح هذين الاحتمالين تعين المعنى في ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ أنه الاقتداء بكل منهم فيما اختص به من الخلق الكريم، وكأنه أمر بجميع جميع ما كان متفرقًا فيهم، وهذه درجة سمية المقدار لم تتيسر لأحد من الأنبياء-عليهم الصلاة والسلام- فلا جرم وصفه الله سبحانه بكونه على خلق عظيم، كما قال بعض العارفين:
فأشادت أولاً إلى غلط السائل؛ لأنه يفهم منه أن الأخلاق المحمدية محصورة فنبهته على أنها من أخلاق الله جل أمره الذي لا تنحصر؛ فلذلك قالت: كان خُلقه القرآن، والقرآن اللفظي الملفوظ به دال على النقوش، وهي دالة على ما في الدهر، وهو دال على المعنى القديم القائم بالذات الأقدس جل سلطانه ضرورة أن الشيء له وجودات أربع: وجود في العبادة، ووجود في الكتابة، ووجود في الدهر، ووجود في الخارج, فافهم.
فآل قولها: كان خُلقه القرآن إلى أنه اكتنف الشئون الإلهية واكتنفته فكان بالله، ولله، ومن الله، وإلى الله ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَوَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾ ، ﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ ، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ﴾ ، وإذا كان خُلقه القرآن, فمن أراد أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم عيانًا لمن لم يدرك عصر الصحابة, فلينظر القرآن الكريم من أوله إلى آخره فإنه خلقه، وقد رآه وقد تفطن لهذا الإمام السهروردي في العوارف, فقال في قول الصديقية: «كان خُلقه القرآن» قال: أرادت أن تقول كان متخلقًا بأخلاق الله فاحتشمت لوفور عقلها، وكمال أدبها، وشرح هذا يطول.
هذا وإن لعظم ما اكتنفته الذات المحمدية من تشعبات الأخلاق الإلهية, واشتملت عليه من علمنا بكل أمر يقوم به أمر العالم العلوي، والسفلي استعظم الحق جل مجده خلقه المحمدي بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ .
واعلم أنه تعددت مقالات الناس في وجه استعظام خلق هذا النبي العظيم.
فقالت الطائفة الأولى:
لكونك متخلقًا بأخلاق الله تعالى، وأخلاق كلامه وهذا يومأ إليه كلام السهروردي, فقال في عوارفه في قولها ذلك رمز غامض وإيماء خفي إلى الأخلاق الربانية فاحتشمت من الحضرة الإلهية أن تقول: «كان متخلقًا بأخلاق الله تعالى» فعبرت عن المعنى بقولها: «كان خُلقه القرآن» استحياء من سبحان الجلال وسترًا للحال بلطيف المقال، وهذا من وفور عقلها وكمال أدبها.
وقالت الطائف الثانية:
وكلمة «على» للاستعلاء, ودلت على أنه صلى الله عليه وسلم مستعلٍ عن الأخلاق الحميدة، ومستولٍ على الأفعال الجميلة، فلم يصل إليها مخلوق غيره حتى صارت بمنزلة الأمور الطبيعية له، ولهذا قال تعالى: ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ وما أنا من المتكلفين أي: لست متكلفًا فيما يظهر لكم من أخلاقي؛ لأن المتكلف لا يدوم أمره، بل يرجع إليه الطبع وللإنسان صورة ظاهرة لها هيئة يشاهدها البهر الذي هو في الرأس، وهي من عالم الملك وهي الشكل وصورة باطنة لها سيرة تشاهدها البصيرة التي هي في القلب وهي من عالم الملكوت وهي الخُلق, فكما أن لهيئته الظاهرة حسنًا، أو قبحًا صوريَّا، باعتبار أشكالها، وأوضاعها، وألوانها، فكذلك سيرته الباطنة لها حسن، أو قبح معنوي، باعتبار شعائرها وطبائعها، ومن ذلك قسموا الخلق إلى المحمود، والمذموم تارة، وإلى الحسين والقبح تارة أخرى، وكثيرًا ما يطلق، ويراد به المحمود فقط؛ لأنه اللائق بأن يسمى خُلقًا.
ومن هذا قوله تعالى عظيم وعليه قول الإمام الرازي: الخلق ملكة نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة، ونفس الإتيان بالأفعال الجميلة شيء، وسهولة الإتيان بها شيء آخر، فالحالة التي باعتبارها تحصل تلك السهولة الخلق وسمي خُلقًا لرسوخه، وثباته صار بمنزلة الخلقة التي جبل عليها الإنسان، وإن احتاج في كونه ملكة راسخة إلى اعتماد، وطول رياضة، ومجاهدة.
ولما كان -عليه الصلاة والسلام- خُلقه العظيم أعظم خُلق بواسطة كون عقله أوسع العقول بعثه الله جل أمره إلى جميع العالمين، وبهذا يعلم من قول الصديقية-رضي الله تعالى عنها وعن أبيها-: «كان خلقه القرآن»
أي: كمالات خلقه صلى الله عليه وسلم لا تتناهى، كما أن معاني القرآن لا تتناهي وأن التعرض لحصر جزئياتها غير مقدور للبشر، ومن ثم وسعت أخلاقه أخلاق أفراد أصناف بني آدم، بل أنواع أجناس العالم، ولذا أرسله الله سبحانه إلى العرب والعجم، والإنس والجن، وسائر الأمم، بل والملائكة والنباتات، والجمادات، بل وإلى الأنبياء والمرسلين-عليهم السلام- فإنهم من أمة سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات وإنما التحيات كما أنبأت بذلك آية: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍوَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِوَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْوَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواوَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾ .
ثم ما انطوى عليه صلى الله عليه وسلم من كرائم النشأة وعظائم الأخلاق لم يكن باكتساب ولا ترييض وإنما كان في أصل خلقته بالفيض الإلهي والإمداد الرحماني لم تزل إفاضاته عليه مفاضة فائضات وأنوار تجلياته، وإمداداته لم تزل عليه مشرقات طامحات، وكذا ذوات الأنبياء والرسل-عليهم السلام- ومن تفحص سيرهم علم هذا وتحققه إلى أن وصل سيدنا صلى الله عليه وسلم لما لا وراء ورائه لمقدورات البشر والأملاك, وكان من أجل ما أوتيه تتمنى وطأ أقدامه سكان الأفلاك .. إلخ.
وليعلم أن كمال الخُلق إنما ينشأ عن كمال العقل؛ لأنه الذي به تقتبس الفضائل وتجتنب الرذائل، والعقل لسان الروح وترجمان البصيرة، فهو جوهرة الإنس، ولكن جوهره البصيرة، والحديث المشهور: «لما خلق الله سبحانه العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: ما خلقت خلقًا أحب إليّ منك، بك آخذ وبك أعطي»
وعقل نبينا صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم وصل في الكمال إلى غاية لم يصل إليها ذو عقل، ومن ثم روى أبو نعيم وابن عساكر عن وهب أنه وجد في إحدى وتسعين كتابًا أن الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدأ الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم إلا كحبة رمل من بين رمال جميع الدنيا، ومما يقطع بذلك سياسته صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم للعرب الذين هم كالوحوش الشاردة النافرة النادة وصيره على طباعهم المتنافرة والمتباعدة كيف ساسهم، واحتمل جفاهم، وصبر على آذاهم، إلى أن قاتلوا دون أهاليهم، وهجروا في رضاه أوطانهم، وأحبابهم، مع أنه لم يطلع على سير الماضين، ولا تعلم من العقلاء المحدثين، وفي عوارف المعارف نقلاً عن بعضهم: اللب والعقل مائة جزء تسعة وتسعون في النبي صلى الله عليه وسلم وجزء في سائر المؤمنين.
قلت: ولا يطلع على معنى هذا إلا من علم تفاسير القرآن الكريم من أوله إلى آخره، وعلم إشاراته، وتلويحاته، وتلميحاته، وتصريحاته، وألغازه، ورموزه وعلم تشعبات خطاباته ووجوهها والمخاطبين بها، وكيفية التخاطب, واستعان على ذلك بعد إتقان هذه العلوم بالانخراط تحت مرتبة عارف كامل واصل؛ لأن ما وراء هذا لم يكشف إلا لهم، ولم ينصب على منصة الجلاء لغيرهم، وفك ما فيه من الطلاسم وانقشع عنه الغبار، فرأى ما فيه من العجائب، والعلوم، والإحاطة بما فيه صلاح العالم، والأولين، والآخرين، وكل ذلك أحاط به خيرًا سيدنا ونبينا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، وهناك يعلم جلالته المحمدية، وما ألبسته من جلابيب الكمالات، والمزايا والخصيصات، ولهذا عبر جل جلاله عن خلقه العظيم المحمدي باسم الجنس النكرة .
ولم يكتف تعالى بذلك حتى صرح بوصفه بالعظمة تأكيدًا وتحقيقًا بالضمن وتخصيصًا، وزيادة في معنى العظمة بالقصد الأول، فإن المفهوم من التنكير مطلق العظمة ومن الصفة غايتها.
فإن قيل: هلَّا قيل حينئذٍ أعظم ، قلنا: رعاية لرتبة الأخلاق الإلهية إذ الأعظمية المطلقة الغير النسبية، إنما هي لها وعلى قدر القرب من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على قدر التخلق بهذه الأخلاق والشيم .
وقالت الطائفة الثالثة:
إنما استعظم الحق جل ذكره خلق نبيه العظيم لما أنه أكشف مكارم أخلاق النبيين، والمرسلين فقد اجتمع فيه شكر سيدنا نوح، وخلة سيدنا إبراهيم، وإخلاص سيدنا موسى، وصدق وعد سيدنا إسماعيل، وصبر سيدنا يعقوب، وسيدنا أيوب، واعتذار سيدنا داود، وتواضع سيدنا سليمان، وسيدنا عيسى، وغيرها من أخلاق سائر الأنبياء عليهم السلام.
كما قال تعالى: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ إذ ليس هذا الهدى معرفة الله تعالى؛ لأن ذلك تقليد وهو غير لائق بمن يقتدر على الدليل الجملي، فضلاً عمن كان نبيًّا وآدم بين الروح والجسد.
فالقول بأن الهدى هنا التوحيد غفلة عما ينبئ عليه ولا الشرائع؛ لأن شريعته ناسخة لشرائعهم ومخالفة لها في الفروع، فلما لم يصح هذين الاحتمالين تعين المعنى في ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ أنه الاقتداء بكل منهم فيما اختص به من الخلق الكريم، وكأنه أمر بجميع جميع ما كان متفرقًا فيهم، وهذه درجة سمية المقدار لم تتيسر لأحد من الأنبياء-عليهم الصلاة والسلام- فلا جرم وصفه الله سبحانه بكونه على خلق عظيم، كما قال بعض العارفين:
لكُلِّ
نَبِيٍّ فِي الأَنَامِ فَضِيلَةٌ * وَجُمْلَتَهَا مَجْمُوعَةٌ لمحَمَّدِ
ومن
هاهنا احتج بعضهم لمن طلب الدليل من القرآن على أفضليته صلى الله عليه وسلم على
جميع الخلائق بآية ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ على ما اخترعناه في تقريرها وهو وجه
حسن.
وبذلك يظهر لك سر عدم وصف خلقه المحمدي بالكريم مع أنه المتعارف، ووصفه بأنه عظيم ونبه على سر ذلك الحليمي، فقال: لأن كرم الخلق يراد به السماحة والديانة، ولم يكن خلقه مقصورًا على ذلك، بل كان رحيمًا بالمؤمنين، رفيقًا بهم شديدًا على الكفار غليظًا عليهم، مهيبًا في صدور الأعداء، منصورًا بالرعب منهم على مسيرة شهر، فكان وصف خلقه صلى الله عليه وسلم بالعظيم أولى ليشمل الإنعام والانتقام.
ونقول حينئذ كان صلى الله عليه وسلم عظيم الرحمة، عظيم الرأفة، عظيم الإحسان، عظيم الإيثار، عظيم العطاء، عظيم المدد، عظيم النفع عظيم النصيحة، عظيم الدلالة على الله تعالى، عظيم الاحتمال, عظيم الصبر، عظيم الحلم، عظيم الوفاء، عظيم الملاطفة، عظيم التواضع، عظيم الهيبة....عظيم التبتل والانقطاع إلى مولاه لم يشاركه في التلبس الحقيقي بهذه الكمالات غيرها.
وبذلك يظهر لك سر عدم وصف خلقه المحمدي بالكريم مع أنه المتعارف، ووصفه بأنه عظيم ونبه على سر ذلك الحليمي، فقال: لأن كرم الخلق يراد به السماحة والديانة، ولم يكن خلقه مقصورًا على ذلك، بل كان رحيمًا بالمؤمنين، رفيقًا بهم شديدًا على الكفار غليظًا عليهم، مهيبًا في صدور الأعداء، منصورًا بالرعب منهم على مسيرة شهر، فكان وصف خلقه صلى الله عليه وسلم بالعظيم أولى ليشمل الإنعام والانتقام.
ونقول حينئذ كان صلى الله عليه وسلم عظيم الرحمة، عظيم الرأفة، عظيم الإحسان، عظيم الإيثار، عظيم العطاء، عظيم المدد، عظيم النفع عظيم النصيحة، عظيم الدلالة على الله تعالى، عظيم الاحتمال, عظيم الصبر، عظيم الحلم، عظيم الوفاء، عظيم الملاطفة، عظيم التواضع، عظيم الهيبة....عظيم التبتل والانقطاع إلى مولاه لم يشاركه في التلبس الحقيقي بهذه الكمالات غيرها.
مُنَزَّهٌ
عَنْ شَرِيكٍ فِي مَحَاسِنِهِ فَجَوْهَرُ الحُسْنِ فِيهِ غَيرُ مُنْقَسِمِ
وقالت
الطائفة الرابعة:
أن النوع الإنساني اكتنفت ذاته قوتين: قوة نظرية، وقوة عملية، ولم يتصف سيدنا ومولانا محمد بمقتضى قوته النظرية إلا بالعلم، والعرفان، والإيقان، والإحسان، ولم يفعل بمقتضى قوته العملية إلا ما فيه رضا الله تعالى من فرض، أو واجب، أو مستحب، ولم يصدر منه حرام، أو مكروه فكان هو الملك، بل أعلى منه.
وقالت الطائفة الخامسة:
قال صاحب روح البيان في «التأويلات النجمية»: كان خلقه القرآن، بل كان هو القرآن, كما قال العارف:
أن النوع الإنساني اكتنفت ذاته قوتين: قوة نظرية، وقوة عملية، ولم يتصف سيدنا ومولانا محمد بمقتضى قوته النظرية إلا بالعلم، والعرفان، والإيقان، والإحسان، ولم يفعل بمقتضى قوته العملية إلا ما فيه رضا الله تعالى من فرض، أو واجب، أو مستحب، ولم يصدر منه حرام، أو مكروه فكان هو الملك، بل أعلى منه.
وقالت الطائفة الخامسة:
قال صاحب روح البيان في «التأويلات النجمية»: كان خلقه القرآن، بل كان هو القرآن, كما قال العارف:
أَنَا
القُرْآنُ وَالسَّبْعُ المَثَانِي وَرُوحُ الرَّوْحِ لاَ رَوحَ الآوَانِي
قال
في «الكشف»: وادمج سبحانه في هذه الجملة أنه صلى الله عليه وسلم متخلق بأخلاق الله
عز ووجل بقوله سبحانه: ﴿عَظِيمٍ﴾
.
وقالت الطائفة السادسة :
قول الإمام الجنيد: إنما كان على خلق عظيم لجوده بالكونين.
وقالت الطائفة السادسة :
قول الإمام الجنيد: إنما كان على خلق عظيم لجوده بالكونين.
لَهُ
هِمَمٌ لاَ مُنْتَهَى لِكِبَارِهَا وَهمَّتهُ الصُّغْرىَ أَجَلُّ مِنَ الدَّهْر
وكأنه
يشير لتجرد سره العظيم صلى الله عليه وسلم بالكلية مما سوى الله تعالى فإنه لم يقف
مع شيء دون الله تعالى، مع أن العالم بصدد أن يقطع الخلق عنه سبحانه، كما قال
تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا
عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [الكهف: 7], فلم يوجد من هو أحسن عملاً مثل سيدنا
ومولانا وممدنا صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قلنا في قول السراج الوهاج:
وإنْ
خَطَرَتْ لِي فِي هَوَاكَ إِرَادَةٌ * عَلَى خَاطِرِي سَهْوًا قَضَيْتُ بُرْدَتِي
إن هذا فيمن له بقية التفات لغير الله جل جلاله.
وأما أهل التجريد المطلق الباطني وهم الأنبياء والرسل والملائكة وورثتهم ومنهم سيدهم وممدهم وقبله مشاهدة أرواحهم صلى الله عليه وسلم .
فلم يركن لغير الله جل شأنه من أول نشأته حتى يحتاج إن خطر له خاطر السوي أنه يرجع لبداية غفلاته؛ لأن المراد بالردة الرجوع للبدايات لا الردة الشرعية، وإن كان خطور ما سوى الله سبحانه على قلوبهم، وهم في محل القرب أسوأ عندهم من الردة: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28], بل أقول أن سيدناصلى الله عليه وسلم لم يغفل عن الله تعالى طرفة عين, وهو في الأصلاب النيرات والأرحام المقدسات، ولم تذق ذاته الترابية طعمًا أصلاً, وكل ما يشكل على هذا كله مجاب عنه في غير هذا الموضوع والأنبياء والرسل-عليهم السلام- حكمهم عدم غفلهم عن الله تعالى, وهم نطف في أصلاب آبائهم، والعقول تقصر عن مطلق إدراك الحقائق الجزئية, فكيف بالحقائق الكلية. اهـ
وأما أهل التجريد المطلق الباطني وهم الأنبياء والرسل والملائكة وورثتهم ومنهم سيدهم وممدهم وقبله مشاهدة أرواحهم صلى الله عليه وسلم .
فلم يركن لغير الله جل شأنه من أول نشأته حتى يحتاج إن خطر له خاطر السوي أنه يرجع لبداية غفلاته؛ لأن المراد بالردة الرجوع للبدايات لا الردة الشرعية، وإن كان خطور ما سوى الله سبحانه على قلوبهم، وهم في محل القرب أسوأ عندهم من الردة: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28], بل أقول أن سيدناصلى الله عليه وسلم لم يغفل عن الله تعالى طرفة عين, وهو في الأصلاب النيرات والأرحام المقدسات، ولم تذق ذاته الترابية طعمًا أصلاً, وكل ما يشكل على هذا كله مجاب عنه في غير هذا الموضوع والأنبياء والرسل-عليهم السلام- حكمهم عدم غفلهم عن الله تعالى, وهم نطف في أصلاب آبائهم، والعقول تقصر عن مطلق إدراك الحقائق الجزئية, فكيف بالحقائق الكلية. اهـ