** آية العظمة ** للشّريف الحسني قدّس الله سرّه :

Jوإنّك لعلى خلق عظيم|
لا جرم أنّ لوائح العظمة ظاهرة على هذه الآية العظيمة، فلا شك أنّها تواري ضمنها أسرارا عجيبة غريبة؛ حيث أنّ العظيم Y لا يعظم إلّا عظيما، فأمر عظمه العظيم في القرآن العظيم، حقا إنّه لعظيم .
وممّا زاد الشّأن عظمة على عظمة، تلك التوكيدات التي تنبه على أنّ الأمر خطير، فلوكان الأمر مجرّد الأخلاق الظاهرة، كالصّدق والأمانة ..، لما احتاج الحق Y أن يؤكدها، وحتىّ الكفار مسلّمون له فيها .
فأكّدها بواو القسم، ثمّ ثنّاها بأداة التّوكيد " إنّ " ثمّ ثلّثها بلام التّوكيد، ثمّ ربّعها بحرف الإستعلاء " على " ثمّ خمّسها بالتّعظيم..., فما العلّة من ذلك ياترى ؟!
  
1)      الخلق العظيم هو : الملّة المحمّديّة .
قال سيّدنا ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} أي : على دِينٍ عَظِيمٍ ( الطبري)
وتأويل ذلك أنّ النّبوّة ذات والرّسالة صفاتها، فكلّ رسالة تستمدّ من نبوّة، وكلّ رسالة هي مظهر لصاحبها، فالظاهر عنوان الباطن، والسّيرة تعرب عن السريرة، ومن أعظم مقاما وحالا، من سيّد الوجود e.
فلإن كانت رسالات وشرائع الرّسل تسفر عن نبوّاتهم الصّفاتيّة، فإنّ الملّة المحمّديّة تسفر عن النّبوّة الذاتيّة، وكلّ إناء بالذي فيه ينضح.
وإذا كان الدّين الإسلامي الكامل، المحيط بكلّ الشّرائع الإلهيّة، والمهيمن على سائر الكتب السّماويّة، هو خلقه e، فجدير أن يعظمه العظيم Y في القرآن العظيم.
ووجه الرّبط بين الدّين والأخلاق هنا، أنّ الشّريعة هي منظومة أخلاق، مع الحق تعالى بالعبادة، ومع الخلق في العادة .

2)          الخلق العظيم هو : الخلعة الصّفاتيّة .
ولقد ذهب زمرة من العارفين، إلى أنّ الخلق هاهنا المراد به الصّفة، وفي تعظيم القرآن العظيم لها دلالة على أنّها ليست صفات عاديّة، بل صفات عظيمة مقدّسة، وما الصّفات العظيمة إلّا صفات الحق تعالى، والتي تحقّقت بها الحضرة المحمّديّة، ثمّ ظهرت بها في صورة بشريّة . 
فكأنّ الآية تقول :سبحان الله العظيم ما هذه صفات بشريّة، ولكنّها صفات ربّانيّة عظيمة، فتكون من قبيل ( وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى ) وما شاكلها .

3)      الخلق العظيم هو : المظهريّة الذّاتيّة.
ولقد نحى الخواص ما هو أدق من ذلك، فقالوا في قوله تعالى بـ " على " إشارة إلى المقام الذّاتي، فضلا عن المظهر الصّفاتي، حيث أنّ " على " تفيد الإستعلاء.
فيكون تأويل الآية : إنّك علوت وتفوّقت على رتبة التحقّقات الصّفاتيّة، المعبّر عنها بـ (خلق عظيم ) إلى مستوى التّحقق بالمظهريّة الذّاتيّة،  الملغّز لها بـ ( على ) ولا غرو من هذا فكلّما دقّ المعنى دقّت العبارة .
وهذا ما تدلّ عليه آية ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) حيث أن "السّبع المثاني" هي الصّفات السّبع المعنويّة، و"القرآن العظيم" هو التّحقق الذّاتي.
4)      الخلق العظيم هو : القرآن الحكيم .
وذهبت أمّ المؤمنين عليها الرّضوان، إلى أنّ الخلق العظيم هذا هو القرآن العظيم، فلما سئلت كما في الصحيح، كيف كان خلقهe قالت ( كان خلقه القرآن)، وهو جواب ملغّز دقيق، ولله درّها من صدّيقة إبنت الصّديق عليهما الرّضوان.
وكأنّها تقول: من كانت جبلته ذاتيّة، لا بدّ أن تكون أخلاقه قرآنيّة، ولهذا كانت كلّ أحواله وأفعاله وأقواله معصومةe، كما قال تبارك (إن هو إلّا وحي يوحى) .
وهذا ما تعطيه دلالة القرآن، من معاني ربّانيّة قدسيّة، وصفات نورانيّة روحانيّة، وأحوال غيبيّة كلّيّة، وليس على حسب التّشريع فحسب . 
5)      الخلق العظيم هو : الواسطة العظمى .
ومنها أنّ الخلق العظيم هو : ما وسع الخلق أجمعين، وهذا ما يتضمنه معنى الواسطة العظمى، من سعة الإمدادات المحمّديّة للعالمين .
فما من ذرّة في الكون إلّا ووسعها إمدادهe، لكونه واسطة تأثيرات الأسماء والصّفات بالكلّ في الكلّ، وكفى بهذا الخلق عظمة، حيث أنّ الإمداد يشمل كلّ صفات الإحسان، جمالا وجلالا وكمالا، غيبا وشهادة ...         
6)      الخلق العظيم هو : الرّحمة للعالمين .
ومنهم من رأى أنّ الخلق العظيم هذا ، هو صفة الرّحمة التي تحقق بها e، حتّى كان هو مظهرها بل عينها، بمقتضى قوله تعالى (وما أرسلناك إلّا رحمة للعالمين)، وقوله Y ( بالمؤمنين رؤوف رحيم)، وقول الكاملe ( إنمّا أنا رحمة مهداة ).
ومعنى هذه العظمة في صفة الرّحمة، أنّها هي المهيمنة على تأثيرات باقي الصّفات، لقولهY ( ورحمتي وسعت كلّ شيء) وقولهY ( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيما تدعوا فله الأسماء الحسنى ) وقولهY في الحديث القدسي ( رحمتي سبقت غضبي ) ، وبتعظيمه Y لصفة الرّحمة في نبيه e تعظيم لكلّ صفاته.
7)      الخلق العظيم هو : أدبه الرّفيع مع الرّبY .
ومنهم من فقه أنّ الخلق العظيم، هو في تخلّقه e في بساط العبوديّة الخالصة، وهو المعروف عند القوم بالأدب مع الحضرة الإلهيّة .
ولا شكّ أنّه e هو الإمام ي محراب العبوديّة على الإطلاق، وبه يهتدي ويقتدي المقرّبون قاطبة، وهو ما يمكن أن نوجّه به قول الإمام الجنيد قدس سرّه: "لأنّهe لم يكن له همة في سوى الله تعالى"
وقول الإمام الحسن البّصري قدس سرّه: "لأنّك لم يؤثر فيك جفاء الخَلْقِ، مع مطالعة الحق، وهذا غاية في كمال أدبه e".
8)      الخلق العظيم هو :الفطرة النّورانيّة .
ومنها أنّ الآية تشير إلى قدسيّة الفطرة المحمّديّة، والتي هي كالخلفيّـة المصدريّة لسيرته وشمائله e ، حيث أنّ الخلق مشتق من الخلقة، أي السّجيّة التي خلقت عليها، كمثل اشتقاق الأمّيّة من الحالة التي ولدتك عليها أمّك .
فيكون توجيه الآية : أنّك لعلى فطرتك الرّبانيّة، المشار إليها بـ ( أدّبني ربّي فأحسن تأديبي ) وعلى خلقتك النّورانيّة، المعبر عنها بـ ( كنت نبيا وآدم بين الرّوح والجسد)، ولم تغيّرك الأغيار، ولم تعكر صفوك الآثار، بل ظهرت أخلاقك طبقا للأصل الذي كنت عليه سالفا .  
9)      الخلق العظيم هو :التنزّل للورى .
ومنها أنّ الخلق العظيم، هو في تنزله وتواضعهe إلى المستوى السّفلي، مع عليه حقيقته النّورانيّة من مجد ورفعة، ولكنّ الخلق لم يوفّوه حقّ قدره، لأنّهم جاهلون بمقداره العظيم، فتولّى الحق سبحانه ذلك لأنّه الأعلم بمكانته.
وهذا ما تشير إليه الآية، حيث عدل تعالى عن خطابنا إلى خطابه، مع أنّه e ليس في حاجة إلى كلّ تلك التّواكيد، فكان التّوكيد لنا والخطاب موجه له، ففيها وفي ما سبق من الآيات والتي أتت في معرض الذّب عن جنابه الشّريف، أسلوب رفيع من العناية الربّانيّة .

وكأنّ الحق تعالى حينما أعرض عنهم ولم يخاطبهم، فيه تحقير لشأنهم، وتعظيم لشأن المعصوم e ، بل وفيه إعراض حتى عن المؤمنين، لعجزهم عن إدراك تلك العظمة، فما خاطب إلّا من يدركها e .

2 **مظاهر الدلالة بين النبوّة والرّسالة **

ü   النّبوّة ( الرّحمن علّم القرآن )، والرّسالة ( خلق الإنسان علّمه البيان ) .
ü   الرّسالة ( بالمؤمنين رؤوف رحيم) والنّبوة (وما أرسلناك إلّا رحمة للعالمين) .
ü   الرّسالة ( إنّك لا تهدي من أحببت) والنّبوة (وإنّك لتهدي إلى صراط مستقيم ).
ü   الرّسالة ( ما أنا بقارئ) والنّبوة (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى ).
ü   الرّسالة ( ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) والنّبوة (كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد) .
ü   النّبوة (وإنّك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم) ، والرّسالة ( نزل به الرّوح الأمين على قلبك) .
ü   الرّسالة ( إنّك ميّت وإنهم ميتون) والنّبوة (اللّهم الرفيق الأعلى).
ü   الرّسالة ( إنّه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم مائة مرّة) والنّبوة (تنام عيناي ولا ينام قلبي) .
ü   الرّسالة ( ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره) والنّبوة (وإنّك لعلى خلق عظيم ) .
ü   النّبوة (إنّ الله وملائكته يصلون على النبي )، والرّسالة ( يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) .
ü   النّبوة (يأيها النبي إنّا أرسلناك )، والرّسالة ( شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا ..) .
ü   الرّسالة (قل إنّا أنا بشر مثلكم يوحى إليّ) والنّبوة (إنّي لست كهيئتكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني).
ü   الرّسالة ( إستغفر لهم أولا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة لن يغفر الله لهم) والنّبوة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)،.
ü   الرّسالة (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) والنّبوة (سيوتينا الله من فضله ورسوله) .
ü   الرّسالة (ومبشرا برسول يأتي من بعدي) والنّبوة (كنت نبيا وآدم بين الرّوح والجسد).
ü   الرّسالة (اليوم أكملت لكم دينكم ) والنّبوة (وما أوتيتم من العلم إلّا قليلا).
ü   الرّسالة (أنا أفصح العرب بيد أنّي من قريش ونشأت في بني سعد) والنّبوة (أدّبني ربّي فأحسن تأديبي) .
ü   الرّسالة (لقد جاءكم رسول من أنفسكم  عزيز عليه ما عنتم) والنّبوة (النبي أولى بالمومنين من أنفسهم)،.
ü   الرّسالة (يؤمن باللهوالنّبوة (ويؤمن للمومنين).
ü   الرّسالة (قاب قوسينوالنّبوة ( أو أدنى ).
ü   الرّسالة (للذين أحسنوا الحسنىوالنّبوة (وزيادة).
ü   الرّسالة ( صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة) والنّبوة (من زار قبرى وجبت له شفاعتي) .
ü   النّبوّة (كنت أول النبيين فى الخلق) والرّسالة (وآخرهم فى البعث) .
ü   الرّسالة (إنّما الله المعطيوالنّبوة (وأنا القاسم).
ü   الرّسالة (لا تفضلوني على يونس بن متىوالنّبوة (أنا سيّد ولد آدم ولا فخر).
ü   الرّسالة ( إنا معشر الأنبياء تنام أعيننا) والنّبوّة ( ولا تنام قلوبنا) .
ü   الرّسالة ( سلوا الله لي الوسيلة..) والنّبوّة ( وأرجوا أن أكون أنا) .
ü   النّبوّة (بُدِئَ بِي فِي الْخَيْرِ ), والرّسالة (وَكُنْت آخِرَهُمْ فِي الْبَعْثِ) .
ü   النّبوّة (وزيراي فى السّماء فجبريل وميكائيل)، والرّسالة (ووزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر) .
ü   الرّسالة (وما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) والنّبوّة (إني لو أحرم عليكم أحرقتكم وإن تحريم الأنبياء لا تطيقه الجبال) .
ü   الرّسالة (فإنّما يسرناه بلسانك) والنّبوّة (نزل به الروح الامين على قلبك) .
ü   الرّسالة (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) والنّبوّة (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) .
ü   الرّسالة (لا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه) والنّبوّة (كنت سمعه الذي يسمع به ..) .
ü   الرّسالة (تلك الرّسل فضّلنا بعضهم على بعض) والنّبوّة (الأنبياء إخوة لعلّات ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد) .


( مظاهر الدّلالة بين النّبوّة والرّسالة)

يقول السيّد محمّد الشريف الحسني  :
*الأربعون الأولى من الحياة المحمّدية كانت نبوّة، والعشرون الأخيرة رسالة .
النّبوّة دعوة سرّيّة أسراريّة، والرّسالة دعوة جهريّة نورانيّة .
الرّسالة إبتدأت بهذه الحياة الدّنيا فختمت بها، وأمّا النّبوّة فهي دائمة سرمديّة .
الرّسالة عهدة جسديّة، والنّبوة عهدة روحانيّة من قبل وبعد الدنيا .
الرّسالة معالم تكليف، والنّبوّة مدارج تعريف .
الرّسالة دوحة صفاتيّة، والنّبوّة نفحة ذاتيّة .
الرّسالة شريعة محمّديّة، والنّبوّة حقيقة أحمديّة .
الرّسالة إسراء إلى المساجد، والنّبوّة معراج إلى الحضائر.
الرّسالة شواهد الشّهادة، والنّبوّة غرائب الغيوب .
الرّسالة سبيل الواحديّة، والنّبوّة سلسبيل الأحديّة .
الرّسالة ثواب وعقاب، والنّبوّة وصال وحجاب.
الرّسالة لسان القال، والنّبوّة لسان الحال .
الرّسالة دليل البدايات، والنّبوّة آيات النّهايات .
الرّسالة قاموس العبارات، والنّبوّة ناموس الإشارات .
الرّسالة قلم التّفصيل، والنّبوّة نون الإجمال .
الرّسالة دولة الحكمة، والنّبوّة سلطة القدرة .
الرّسالة سلوك الطّريق، والنّبوّة فتوح التّحقيق .
الرّسالة تنزّل إلى الخلق، والنّبوّة تعالي إلى الحقّ .
الرّسالة حديث وفرقان، والنّبوّة كلام وقرآن .
الرّسالة معالم الإسلام، والنّبوّة إيمان وإحسان .
الرّسالة تشريع وتفسير، والنّبوّة تحقيق وتأويل .
الرّسالة قالب ظاهر، والنّبوّة قلب باطن .
الرّسالة أحكام محدودة، والنّبوّة حقائق مطلقة .
الرّسالة مظهر قائم، والنّبوّة مصدر مقيم .
الرّسالة جمال وجلال، والنّبوّة كمال ووصال .
الرّسالة مباني جاريّة، والنّبوّة معاني ساريّة .
الرّسالة من لسان إلى آذان، والنّبوّة من قلب إلى قلب.
الرّسالة دلائل وآيات، والنّبوّة مظاهر وتجليات.
الرّسالة أنوار مبينة، والنّبوّة أسرار مكنونة.
الرّسالة قانون جزئي، والنّبوّة دستور كلّي.
الرّسالة مورد العموم، والنّبوّة منهل الخصوص.
الرّسالة رقائق علميّة، والنّبوّة حقائق إلهاميّة.
الرّسالة تشهد وتوحيد، والنّبوّة شهود وتجريد.
الرّسالة إرث العلماء، والنّبوّة إرث الأولياء.
الرّسالة رواية المحدِّثون، والنّبوّة رواية المحدَّثون.
الرّسالة نهج الفقهاء والمفسرين، والنّبوّة مشرب العارفين والمؤولين .
الرّسالة تقتضي الطاعة والإتّباع، والنّبوّة تستوجب الحبّ والإجتماع.
الرّسالة أنا وأنت ونحن ، والنّبوّة حضرة الهو .
الرّسالة فرق الجمع، والنّبوّة جمع الجمع.
الرّسالة خطاب عقلاني بياني، والنّبوّة خطاب روحاني وجداني .
الرّسالة غيض من فيض النّبوّة، أو قل قبس من شمس النّبوّة، أوقل نهر من بحر النّبوّة .

2)))) كان خلقه القرآن

2)               تحققه بالقرآن العظيم :
وممّا ذهب إليه جمهور العارفين، في تأويل هذا النّص الشّريف، أنّه يشير إلى تحققهe بالقرآن الكريم، حيث أنّ للسّالك بالقرآن العظيم حالتين : الـتّعلّق والتّحقق، والتّحقق بالصّفة الكلاميّة الأزليّة، خاص بذي المقام الذّاتيe، والكمّل ورثة له e في هذا الحال، وإلّا فلن يستطيع أحد قبول صرفيّة القرآن العظيم، كما قال الإمام الدّباغ قدّس الله سرّه :
( إنّما مثل الأسرار والأنوار التي في القرآن، والمقامات التى انطوى عليها، والأحوال التي اشتمل عليها، كمثل من فصل كسوة وجعل فيها قلنسوة وقميصا وعمامة وجميع ما يلبس، وطرحها عنده، فإذا نظرت إلى الكسوة، ثم نظرت إلى جميع المخلوقات، علمت أنه لا يطيق لباسها وتحملها إلا ذات النبي e، وذلك لقوة خص الله بها الذّات الشريفة) اهـ من الإبريز .
ومعنى التّحقق هذا هو أن يتحقّق e بكلّ إسم أو صفة ربّانيّة تسري في القرآن العظيم، فيكون تبليغه e للكتاب عن تحقق لا عن تشدّق، وبلسان الحال لا بلسان القال، وإليه الإشارة بقوله تعالى (وما ينطق عن الهوى) وبقوله سبحانه ( وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين ) والإمام المبين : هو النّور المحمّدي ..
ولاجرم أنّ علاقة الحضرة المحمّديّة بالقرآن الكريم، هي علاقة تحقق وليست مجرد وساطة قولية، فحينما يمتن عليه سبحانه بمنة نزول القرآن، فإنّه يمتن عليه بالفتح بالقرآن الكريم، كقوله تعالى مثلا: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) فالسّبع المثاني هي إشارة إلى التحقق بالسّبع الصّفات، والقرآن العظيم هو ما تحقق به e من مظهريّة الذّات ».
·       يقول الإمام السّهروردي في [العوارف] : " لا يبعد – والله اعلم – أن قول السّيّدة عائشة رضي الله عنها: ( كان خلقه القران ) رمز غامض، وايماء خفي، إلى الأخلاق الرّبانية، فاحتشمت رضي الله عنها من أن تقول: كان متخلقا بصفات الله تعالى، فعبرت عن المعنى بقولها: كان خلقه القران، إستحياء من سبحات الجلال" اهـ
·     ويقول الإمام علي وفا الشاذلي قدّس الله سرّه :
(كان خلقه القرآن ) أي من حيث وعى ما فيه من الفضائل والمكارم  ، قال سيدي الوالد قدّس الله سرّه:
جُمَلُ الجمال تجمعت في خلقه *** ولخلقه جمَع الهدى فرقانه
ومنه قوله تعالى ( وإنّك لعلى خلق عظيم ) إذ فرقانك الرّباني الحكيم، لا يحكم الا بما هو رحمة وحكمة وحسن وجمال ، فهو مبدأ بيانك المسمى بالفرقان  ، فهو حقيقتك الحقية ، ونسختك الاصلية التي نسختها منها  بالتنزيل البياني في وسع افهام القابلين ، بحسن القبول الايماني .

3)               كان مظهره القرآن  :
ولقد ذهب خاصة الخاصّة من المحققين، إلى معنى أعمق وأرشق، وهو أن قول الصّديقة عليها الرّضوان ( كان خلقه القرآن) أي : كان وصفه القرآن، وكأنّ الكتاب المبين هو سور تفصيليّة لمجمل ما انطوت عليه الحقيقة المحمّديّة من أسرار ذاتيّة، حيث أنّ كل كتاب على قدر النبي الذي أنزل عليه، فالكتب هي كالملخّص لفتح الرّسل عليهم الصّلاة والسّلام ، ولهذا كان القرآن أعظمها، لأنّه لا تفاوت في كلام الله تعالى ، ولكن التّفاوت في قوابل تلك التّجليات الأزليّة .
يقول الإمام الجيلي قدس سرّه في ( الكمالات الإلهيّة في الصفات المحمّديّة ) :
قال الله تعالى لنبيه e: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) والخُلق: هو الوصف، والأوصاف العظيمة هي أوصاف الله تعالى. وسُئلت السّيّدة عائشة رضى الله عنها عن أخلاقهe فقالت: كان خلقه القرآن. أشارت إلى حقيقة التحقق بالكمالات الإلهية، لأن القرآن إنما هو عبارة عن كمالات الله تعالى ولأن القرآن كلام الله. والكلام صفة المتكلم وهو خُلُق النبي e يعنى صفته. فهو متصف بأوصاف الله تعالى جميعها، ظاهرها وباطنها، وهو المعطى لكل منها حقها كما يعطى الموصوف صفاته حقها.


4        ) العجز عن حصر أخلاقه e
وكان الإمام الكتّاني قدس الله سرّه، قد فهم الحديث بأنّه كالتعبير عن عجزها عن الحيطة بالأخلاق المحمّديّة، والتي هي تحققات صفاتيّة ربّانيّة، فأرادت السّيّدة رضي الله عنها أن تصحح مسار السّؤال، فأجابته بهذا الوجه من الإجمال والتّحقيق، وكأنّها تقول هادونك غص في بحور القرآن المجيد، فإن أحطت بها فستحيط بالصّفات المحمّديّة .


فيقول قدّس الله سرّه كما في ( خبيئة الكون ) :
«كان خلقه القرآن أي: كمالات خلقه e لا تتناهى، كما أن معاني القرآن لا تتناهى، وأن التعرض لحصر جزئياتها غير مقدور للبشر، ومن ثم وسعت أخلاقه أخلاق أفراد أصناف بني آدم، بل أنواع أجناس العالم ..
ثمّ ما انطوى عليه e من كرائم النشأة وعظائم الأخلاق، لم يكن باكتساب ولا ترييض وإنما كان في أصل خلقته بالفيض الإلهي والإمداد الرحماني ..

ولا يطلع على معنى هذا إلا من علم تفاسير القرآن الكريم من أوله إلى آخره، وعلم إشاراته، وتلويحاته، وتلميحاته، وتصريحاته، وألغازه، ورموزه وعلم تشعبات خطاباته ووجوهها والمخاطبين بها، وكيفية التخاطب, واستعان على ذلك بعد إتقان هذه العلوم بالانخراط تحت مرتبة عارف كامل واصل؛ لأن ما وراء هذا لم يكشف إلا لهم، ولم ينصب على منصة الجلاء لغيرهم، وفك ما فيه من الطلاسم وانقشع عنه الغبار، فرأى ما فيه من العجائب، والعلوم، والإحاطة بما فيه صلاح العالم، والأولين، والآخرين، وكل ذلك أحاط به خيرًا سيدنا ومولانا محمد e، وهناك يعلم جلالته المحمدية، وما ألبسته من جلابيب الكمالات، والمزايا والخصيصات .
خلاصة

ويستفاد من هذا التحقيق أنّ الحضرة المحمّديّة، هي عين القرآن الكريم في الدّلالة والوجهة والتّعلّق والتّحقق، وذلك من بعد أن امتزجت أسرار القرآن بالنّور المحمّدي، منذ العهود الأولى، ولا يزال إلى أبد الآباد، ولهذا كان حديثهe حق فقال تعالى (وما ينطق عن الهوى) وقال e ( ألا إنِّي أوتيت الكتاب ومثله معه).
بل ولمّا توجس ساداتنا الصّحابة عن فراقه قال لهم ( تركت فيكم ما إن تمسكـتم به لن تضلّوا كتاب الله وعـترتي ) فتأمّل كيف صار الكتاب العزيز من أخص المواريث المحمّديّة،  حتى قرنه e بعترته الطيّبة .
وفي هذا يقول الإمام الأكبر رضي الله عنه في (الفتوحات المكيّة ) :
 " فكان القرآن خلقه e فمن أراد أن يرى رسول الله e ممن لم يدركه من أمته فلينظر إلى القرآن فلا فرق بين النظر إليه وبين النظر إلى رسول الله e فكأن القرآن أنشأ صورة جسدية يقال لها سيدنا محمد بن عبد الله e والقرآن كلام الله وهو صفته فكان سيدنا محمد e صفة الحق تعالى بجملته... فيكون سيدنا محمد e ما فقد من الدار الدنيا لأنه صورة القرآن العظيم "اهـ
·     وقال صاحب «التأويلات النجمية»([1]) : كان خلقه القرآن، بل كان هو القرآن, كما قال العارف:
أَنَا القُرْآنُ وَالسَّبْعُ المَثَانِي *** وَرُوحُ الرَّوْحِ لاَ رَوحَ الآوَانِي

ومن هنا نجد تطابق الوصفين للقرآن الحكيم وللذات المحمّديّة، في كثير من النّصوص الشّرعيّة؛ فمثلا:
يقول تعالى عن القرآن الكريم : (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزل إليهم ولعلهم يتفكرون) .
ويقول سبحانه عن حبيبهe : (قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ، رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ ) .
ويقول تعالى عن القرآن الكريم : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) . وتأمّل في قوله ( أنزل معه ) ؟!
ويقول سبحانه عن حبيبهe :( قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ) وانظر كيف وحّد الضمير هنا سبحانه، يقول الإمام البيضاوي في تفسيره (يهدي به الله) وحد الضّمير لأنّ المراد بهما واحد، أو لأنّهما كواحد في الأحكام .اهـ
قلت: وعليه فإنّه يجوز قياس ما ذكر على مالم يذكر، من بعدما تحقّق الإمتزاج والإزدواج فكلّ صفة للقرآن الكريم، يجوز إطلاقها على الذّات المحمّديّة، تحقّقا ومظهريّة بلا حلول ولا اتحاد، فالقرآن كلام أزلي غير مخلوق، والنّور المحمّديّ عبد كامل مخلوقe ولكنه ليس كغيره من الخلق .
هذا والله ورسوله أعلم وأحكم ، وصلى الله على مجلى القرآن الأعظم، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما .


[1] - الشيخ إسماعيل حقي البروسوي – تفسير روح البيان – ج 10 ص 107 .