قال الشريف الحسني :
}الوجود
الحقيقي{
إعلم أنّه لكلّ جنس من المخلوقات وجودا يخصه ،
فمنها السّفليّة والعلويّة ، والغيبيّة والشهاديّة ، والبريّة والبحريّة ، وكلّما
اختلفت خصائص الأجناس تباينت شؤونهم ، ولما كانت تلكم الحقيقة القدسيّة ، ليست
كجنس الممكنات ولا في بعض أجزائها ، كان لها وجود فريد من نوعه ، وكذلكم لمّا كانت
نسيجا وحدها في جنسها، توحدت في كيانها وسائر شؤونها ، فلم يشاركها غيرها في حضرتها
الحقيقيّة ، الّتي يطلق عليها العارفون لقب ( الوجود اللّازم ، أو الخلوة الأحديّة
، أو عالم الوحدة ، أو حضرة أو أدنى ..)
وإنّه وإن
كان مقصورا في خيام الإطلاق ، غير أنّ له تنزّلات تعريفية على عوالم الإمكان ،
فيتلبس لكلّ جنس بما يناسبهم ، ليمكن التّلقي منه والتّرقي به .
إذا فما
الحضرة الجسديّة وشؤونها السّفليّة ، وما الحضرة الروحانيّة وشؤونها العلويّة ،
إلّا كضرب مثال بلسان الحال ؛ بل حتّى عالم الحشر والجنان والكثبان ، ماهم منه سوى
تنزّلات للدّلالة والسّقي ، كيف وإنّ غاية ما ينتهي إليه المقربون في الكثيب ،
ماهو إلّا كلحظة من ديهور كفاحه ، وهذا أوكد دليل على مغايرته لأجناس الورى ( إنّي
لست كهيئتكم ) .
فإنّه لو
ظهرت حقيقته كما هي عليه في عالمها ، وانبسطت بما يقتضيه إطلاق شؤونها ، لاستحال
الوجود عدما .
} شؤون الحقيقة المحمّدية {
أوّلا وقبل التّفصيل : لابدّ أن تعرف قانونا
مهمّا في دستور التّحقيق ، وهو أنّ الحضرة الذاتيّة ، في حال إطلاقها وتجريدها ،
مقدّسة عن إضافة الصّفات ، لكنّها ولمّا ضاقت عبارة التّعريف بها ، إصطلح العارفون
لما يتعلّق بها إسم ( الشّؤون ) وكذلك هي الحال في مظهرها ومجلاها صلى الله عليه
وسلم ، لكونه مظهرا للذّات بحقيقته ، ومثالا للصّفات بنعوته وتنزلاته .
هذا ولمّا
كان لون الماء لون إنائه ، وحيث لازالت التّحققات الأحمديّة بالحضرة الأحديّة
قائمة ، لزم أن نعين حقيقته بما تقتضيه مظهريّتها من شؤون ، على سبيل الوراثة
والخلافة ، لا على سبيل الإستبداد المشبوه ؛ فمن ذلك مثالا :
أ-
التّجريد :
أي تقديس الحقيقة المحمديّة ، عن كل نسبة أو إضافة تقتضي التّوصيف والتّكييف ..؛
ويشار إليه بالبحتيّة والصّرافة ..
ب- الوحدة : وهي تفردها في وجودها وشؤونها ، واستغناؤها بعينها عن
نعوتها ، وهي مجلى للأحديّة الذاتيّة ، لكنّها أفردت بلقب يخصّصها ..
ت- الإطلاق : وهو ضرب من السّعة في شؤون الحقيقة ، ينزهها عن قيود
الإمكان ، وحدود الزّمان والمكان .
ث- البطون : كونها غيبا حتّى عن العوالم الغيبيّة ، لما عليه حضرتها
من طلاقة وعلو وتمايز ، فألزمتِ الغير بالعجز والحجاب .
ج- الكمال : وهو استغناءٌ فطريّ ذاتيّ ، مستمدّا من حضرة الآزال ،
تحققا أنيّا بالكنه الأقدس ، بلا غاية ولانهاية .
}عبودية
الحقيقة المحمدية {
وإنّ ممّا عجز المقرّبون عن سبر غوره ، ماهيّة
الصّلة العينيّة ، مابين الذّات الإلهية وبين عبدها الأول وحبيبها الأقرب صلى الله
عليه وسلّم ، فلا يجوز لنا أن نشبّهها بكينونتنا الإنسيّة ؛ لأنّ له عبودية بقدر
همته الأنيّة ، وبحسب فتوحاته الهويّة ، وبمعيار طاقته وهيأته القدسيّة ، ومن ذا
يجاريه في مضمار الوجوب ؟
فغاية ما
نعرفه عن مسلكه الحقّاني ، أنّه عبد الذّات بعبودية تتناسب مع كنهه ، فلا نحجّرها
على نسبة ولا كيفية معيّـنة ، وإن تظاهر حال تنزله بما يوهم المشاكلة .
}فتوحات
الحقيقة المحمدية {
وكذلك هو الحال في الطّرف الآخر للصّلة العينيّة
، وهو مامن الذّات الكبرى إلى حبيبها صلى الله عليه وسلم ، من فتوحات ذاتية :
وتحققات كنهية ، وتعرفات ماهيّة ، ومكافحات عينيّة ؛ لأنّنا لا نعرف إلّا من نجانس
، أو ماعـرّفنا به هو صلى الله عليه وسلم ، أو من هو مثله ، أو من هو فوقه ؛ وأنّى
بهذا وكِلا طرفي الصّلة مبهم ، فما يسري بينهما لابدّ وأن يكون مجهولا .
فإنّه من التّجرء والتّعسف بمكان ، أن نتكلف
الخوض في مجريات الخلوة الأحديّة ، عروجا وفتوحا ، فشتّان مابين التّنزل والحقيقة
، وأين الوحي والمعراج من الفتوحات الذاتيّة ؟!
} تجليات الحقيقة المحمدية {
وأمّا في
تجليات وفتوحات الحقيقة المحمديّة لنا ، فإنّها غير ممكنة في هذه الدّار بالإتّفاق
، كما هو شأن مصدرها الذّاتي ، فلا إدراك ولا تحقق ولاعيان ، حتى يكشف الحجاب في
مقام الوسيلة ، حيث نسقى من حوض قدسه ما نتهيأ به لمباشرة حقيقته ، وكلّ على قدر
رتبته وقدرته يستقي ، ومع ذلك يبقى كنهه أطلق وأبطن ، لكونه لايزال هو كذلك يتدبّج
ويتتوّج بالخلع الذاتيّة ، ثم يتوسط بخلعها علينا ، فكما أنّه لاغاية للمصدر ؛
لامنتهى للمظهر