فك قونوي



                              للشيخ صدر الدين القونوي قدس الله سره :
قد اتفق المحققون من اهل الله ان اللبن و الماء و العسل و الخمر مظاهر علوم الوهب، و تأييد كشفهم و اتفاقهم من حيث الظاهر بالاخبارات النبوية الصحيحة و الآثار الثابتة الأسانيد المتكررة الذكر في السنن و في تعبير الرؤيا و في احاديث الحوض و الاسرار و غير ذلك مع التجارب المتكررة المذكورة في الوقائع .
و إذا تقرر هذا فاعلم: ان مبدأ حكم الله في خلقه و موجب ارتباطهم به و مشرع تعلقه بهم انما هو علمه الأزلي الذاتي المتعينة صور المعلومات فيه ازلا و ابدا على وتيرة واحدة، و انه السبب الأول في ايجاد ما أوجده الله، و قضائه سبحانه و قدره تابعان لعلمه، فتعلق علمه بالمعلومات ثابت بحسب ما يقتضيه حقائقها، لان تعلق كل علم بكل معلوم تابع للمعلوم كما سبقت الإشارة اليه غير مرة و لما كانت المبدئية في الحكم على الخلق و التعلق بهم انما تثبت بالعلم و كان الماء مظهرا للعلم، لزم من حيث كمال الحكمة الإلهية ان يكون اول آية المرسلين الآتى بصورة حكم الحق في خلقه بموجب علمه الماء. فهذا سر آية نوح عليه السلام .
و لما كانت صفة الكلام صورة من صور العلم و نسبة من نسبه و حصة منه ، كيف قلت و هي «كن» و بها انفتح باب تأثير الحق في الخلق، فظهرت الموجودات من العلم الى العين على اختلاف أجناسها و أنواعها و اشخاصها و استمرار آثارها دنيا و آخرة كانت آية نبينا صلى الله عليه و سلم الكلام، و كما عم حكم الكلام كل ما قدر الله تعالى وجوده من المعلومات في هذا العالم وحده بقوله للقلم الأعلى : اكتب علمى في خلقى الى يوم القيامة، كذلك عم حكم شريعته جميع الخلق و الشرائع و اتصل بالاخرة، بخلاف غيره من الأنبياء، فان رسالاتهم و شرائعهم جزئية مقيدة متناهية الحكم، و لعموم حكم شريعته جعلت الأرض كلها مسجدا له و لامته و ترابها طهورا، و اندرجت في احكام رسالته رسالة من مضى من الرسل و من بقي منهم كعيسى و الياس عليهما السلام، و كذلك الامر في نبوته التي يدخل فيها الخضر عليه السلام، هذا و ان اختلف قوم محجوبون في الاعتراف بنبوة الخضر عليه السلام، فان أكابر المحققين لا خلاف بينهم في ذلك .
و اما سر انشقاق القمر له و ظهوره بصورة التصرف فيه فهو :ان فلك القمر و ان كان اصغر الأفلاك من حيث الجرم، فإنه اجمعها من حيث الحكم ، لان فيه يجتمع قوى سائر السموات و توجهات الملائكة ثم ينبث منه و يتوزع على هذا العالم و اهله، و لهذا كانت هذه السماء سماء الخلافة فظهر لأولي الأبصار حال اطلاعهم على سر انشقاق القمر سر جمعية نبينا صلى الله عليه و سلم و ختميته، لأنه لما كان آخر الرسل و اجمعهم تصرف في آخر الأفلاك و اجمعها للقوى و الخواص العلوية و تصرف في هذا العالم و اعطى مفاتيح خزائن الأرض و السماء كما أخبر بذلك قبل موته بخمسة ايام فزاد على كل من اعطى التصرف في شي ء من هذا العالم على تعيين باطلاق التصرف دون غيره .
و كمالاته الدالة على جمعيته كثيرة، و أعظمها المستور في هذا العالم و المنكشف في الآخرة، كما أشار اليه في حديث القيامة في فتحه باب الشفاعة و قوله ايضا: فأقوم عن يمين العرش عند ربى في مقام لا يقوم فيه احد من العالمين غيرى و قوله: انا سيد الناس يوم القيامة، و ذكره تفصيل ذلك .
و من المتفق عليه شرعا و عقلا و كشفا: ان كل كمال لم يحصل الإنسان في هذه النشأة و هذه الدار فإنه لا يحصل له ذلك بعد الموت في الدار الآخرة ، فهذه الكلمات المشار إليها كلها كانت حاصلة له هنا، كتمها لما يقتضيه حكم هذه المواطن الذي هو عالم الستر و يظهر في الآخرة يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [ الطارق / 9] فإنه عالم الكشف و زمان المباهاة .
و من جملة ما اختص به كمال الخلة الخارقة كل حجاب و لها درجة المحبوبية، فان الخلة لها مرتبتان، غاية إحداهما كمال المجاورة مع بقاء الحجاب المعبر عنها بقولهم :و تخللت مسلك الروح منى و بذا سمى الخليل خليلا و قد أخبرنا بالفرق بين مرتبتى الخلة بقوله صلى الله عليه و سلم في الادعية المستجابة المذكورة في حديث الإسراء حال تردده بين موسى و ربه في طلب التخفيف من الصلاة و مراجعته ربه ثلاث مرات و قول الحق له آخرا : و لك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها يوم القيامة، و دعائه لامته في الدعوتين، و قوله صلى الله عليه و سلم: و أخرت الثالثة يوم يلجأ الخلائق فيه الى حتى إبراهيم ، و لا شك ان من يلتجأ اليه اعظم منزلة من الملتجئ المحتاج فثبت بذلك و غيره رجحان مقامه على مقام الخليل عليه السلام .
و ايضا: فقد أخبرنا صلى الله عليه و سلم: ان الخلائق إذا التجئوا يوم القيامة الى إبراهيم و يقولون له : أنت خليل الله اشفع لنا، انه يقول لهم :
انما كنت خليلا من وراء وراء، فنبه ان خلته من وراء حجاب باق، و لما ثبت رجحان نبينا صلى الله عليه و سلم على سائر الأنبياء عليهم السلام بما ذكرناه و بما سكتنا عنه و بما أخبرنا قبل موته بخمسة ايام ان الله قد اتخذه خليلا، علمنا ان هذه الخلة ليست كتلك لثبوت رجحانه على كافة الرسل.
و لما كان خلة الخليل من وراء حجاب، لزم ان يكون هذه الخلة حاصلة دون حجاب، و تلك مرتبة المحبوبية التي صرح بها ايضا في حديث آخر و انها عبارة عن ان يكون كل واحد من المحبين مرآة للآخر بحيث يصير كل واحد منهما محبا و محبوبا و ينطبع في كل واحد منهما ما ينطوى عليه الاخر تماما. فافهم، فهذا هو سبب الجمعية المتضمنة للختمية و غيرها من كمالاته المنبه عليها من قبل .
و اعلم انك متى استحضرت ما ذكرت لك في سر الكمال المحمدي و ما انفرد به دون غيره، عرفت ان شرف من عداه من الأنبياء عليهم السلام من حيث الآيات هو بمقدار نسبته من الجمعية التي انفرد بها نبينا صلى الله عليه و سلم، فترجحت آيات إبراهيم عليه السلام على من اعطى آية واحدة و آيتين بكثرة عدد الآيات و يعظمها ايضا، فان اعظم آياته اختصاصه بعمارة الكعبة، لان الأرض محل الخلافة و صورة حضرة الجمع و ورد في الحديث: ان الله دحا الأرض من تحت الكعبة، فعين سبحانه بإبراهيم عليه السلام نقطة مركزية الأرض و مبدأ انتشائها و أسكنه بعد مفارقته هذه الدار السماء السابعة محل روحانية الأرض فثبتت نسبته مع صورة الأرض و روحانيتها. فافهم .
و كذلك سخر له النار التي هي اعلى العناصر محلا و من حيثها افتخر ابليس على آدم، فلو وقع النزاع المذكور مع ابليس في حق إبراهيم عليه السلام لما ساغ لإبليس ان يفتخر على إبراهيم عليه السلام لتسخير الحق له النار فتذكر .
و اما موسى عليه السلام: فمن آياته تجلى الحق له في عين حاجته اعنى النار و منها الشجرة و منها العصا و منها الحجر الذي انفجرت منه اثنتا عشرة عينا و من آياته تسخير الحق الماء اولا حين رمى في اليم فسلمه الله، و آخرا حين تبعه فرعون و قومه .
و اما صحة نسبة عيسى عليه السلام من مقام الجمعية: فبدخوله ذوقا و حالا في دائرة الجمعية المحمدية و انصباغه بحكمها، و به ختم الله سبحانه احكام هذه الشريعة و دولة أحكامها ايضا، و هذا كله من الزيادة على ما خص به من قبل تعليم الحق إياه الكتاب و الحكمة و التوراة و الإنجيل و تمكنه من احياء الموتى و خلق الطير من الطين و احيائه بالنفخ و إبراء الأكمه و الأبرص و الاطلاع على ما يأكل الناس في بيوتهم و ما يدخرون و انزال المائدة، فافهم، تصب ان شاء الله .اهـ