وقال الشريف الحسني قدس الله سره
}التّأصيل
{
ولإن قلت : وما الدّليل على وجود الحقيقة
المحمّديّة ؟
فسنقول : إعلم أولا أنّ المصادر الشّرعيّة ، لم
تصرح بالحقائق تفصيلا ، وإنما ضمنتها في النّصوص الظّاهرة ، وعلّمتها برموز دقيقة
؛ وذلك لقصر العقول العاديّة ، عن تقبل الأسرار الرّبانيّة .
وإلّا ، فأين الدّليل على الذّات وشؤونها ، في ظاهر
الآيات والحديث ، مع أنّ معرفة الذّات هي المقصود ، في حين تجد القرآن المجيد ،
يطنب في قصص فرعون ، وإبليس .
وعليه فمن أراد التّعرف على الحقائق ، فلا بدّ له
من الغوص في طمطموت القرآن العظيم ، ومن هناك تقتنى الكنوز ، حيث الحقيقة والبطون
الطّليقة .
وكفى بـقوله صلى الله عليه وسلم : ( إني لست كهيئتكم ) دليلا ، أي أنّ هيئتي
مخالفة لهيئاتكم الجسمانيّة منها والرّوحانيّة ، وإنّما أنا نور ربانيّ .
ويؤكدها قوله صلى الله عليه
وسلم : (
إنّي أبيت عند ربّي ، يطعمني ويسقيني ) أي أنّ وجودي الحقيقي هو في رفقة ربّي ، والرّبّ هو المحتد ، ومحتده صلى الله عليه
وسلم هي الذّات الأقدس ، وذلك بهيأته الأنيّة ، الّتي تؤهله للمواصلة
العينيّة .
و كذلك إليها الإشارة
بقولهصلى
الله عليه وسلم : (لي مع الله وقت ، لا يسعني فيه : ملك مقرب ، ولا نبيّ مرسل ) وما هذه
الحضرة الّتي يتفرد فيها ، حتّى عن الرّوحانيّين المقربين ، إلّا الحضرة الحقانيّة
.
وكذا في حادثة المعراج ،
وهي أوكد دليل على هذا ، حيث أنّه ارتقى على الجسديين ، من أهل الأرض ، ثمّ ارتقى
على الروحانيّين ، من أهل السّموات والغيوب ، حتّى آل إلى حقيقته الأقدسيّة ،
المناسبة لكفاح السّبحات الذّاتيّة .
(فصل نهج العرفان
)
ومن يوم أن برز ميثاق التّصوف
، من ديوان البيت النّبوي ، وهذه الحقيقة رائجة في النّوادي الصوفيّة ، وما كان
ذلك إلّا من بعد قيام نهج التّخصّصات في فنون الدّين ، فصار هناك فقيها وصوفيّا
ومحدّثا ومفسّرا .. وذلك الّذي أجاز للسّادة العارفين ، الكشف عن مخدرات الأسرار ،
في مجالسهم الآمنة من الضّد والنّكير .
فالباحث عن مصطلح
"الحقيقة المحمدية " سيرى أنه ظهر منذ تلك العهود السلفية ، فتراه ضمن
كلام أئمة آل البيت الأولين كالإمام
الباقر والصادق والكاظم.. عليهم السلام ، وكذا في كلام العارفين السابقين ،
كالإمام القرني والجنيد والبسطامي .. قدس الله أسرارهم ، ومن ثم إنتشر وذاع ، وصار محورا ومركزا وثيق
، ضمن منظومة المصطلحات العرفانية .
وإنّ تلك الحقيقة هي المحور الذي دار عليه رحى
الصّلوات العرفانيّة ، حيث أنّ صلوات الأولياء تنطبع على حسب أطوار حضراته الثّلاثة
، حقيقة وروحا وجسدا ، فمثال من أشار إلى حقيقتهصلى الله عليه وسلم الإمام الشّاذلي في صلاته ( .. النّور
الذّاتي ، والسّر السّاري في سائر الأسماء والصفات ..)
وقول القطب ابن مشيش :
{اللهم صل على من منه إنشقت الأسرار وانفلقت الأنوار وفيه أرتقت الحقائق وتنزلت علوم سيدنا
آدم فأعجز الخلائق ، و له تضائلـت الفهوم
فلم يُدرِكهُ مِنا سابقٌ و لا لاحِقَ..} .
تنبيه :
وإنّه لايقدح في تلك الحقيقة ، الّتي هي أحق من
الحقيقة ، كون بعض النّصوص الّتي يستدل بها البعض عليها ، موضوعة أو بعيدة الدّلالة
، فإنّ إبطال الدّليل لايقتضي إبطال المدلول ، ولعلّهم ما ذكروها إلّا للإستئناس
والتّقريب ، أو لحسن الظن براويها .
وكذلك إنّه من المغالطة
بمكان ، أن نطالب دليلا شرعيّا على كلّ شيء موجود في الكيان ، فالشريعة جاءت للتّعبد
، وليست لإحصاء ذرات الوجود ، وإلّا فإننا سنحجر قدرة الله تعالى ، على عوالم
ومعلومات محصورة ، على حسب عقولنا القاصرة عن الإدراك .