( الحقيقة المحمدية ومعرفتها حق العرفان )



للشيخ عبد الكريم الكسنزاني قدس الله سره


نقول : إن المؤمن الذي يعرف الحقيقة المحمدية تحقيقاً هو الذي يرى حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم  في كل مكان حاضراً وناظراً ، ومن يصل إلى هذه المعرفة فقد وصل إلى الحقائق ، ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ).
تتألف هذه العبارة من مفردتين : ( الحقيقة ) و ( المحمدية ) ، فأما المفردة الأولى فإن معناها العام : هو كنه الشيء وذاته أو كما يقال ( ماهيته ) ، وأما المفردة الأخرى فتشير إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم  ، فيكون معنى العبارة كاملة هو : الكنه أو الماهية الذاتية للرسول صلى الله عليه وسلم  .
إن هذا المعنى لهذه العبارة يبعدنا - ولو شكلياً – عن الجانب الصوري أو المظهري للرسول صلى الله عليه وسلم ويجعلنا نركز على الجانب المعنوي له أو البعد الآخر .
ولتوضيح ذلك نأخذ على سبيل المثال ( الإنسان ) لنرى الفرق بين صورته وماهيته ، فلو أننا نظرنا إليه من حيث بعده الصوري أو المظهري لوجدنا أنه يتكون من لحم ودم وغيرها من الأمور البايلوجية الحية بما تنطوي عليه من عناصر كيمياوية متداخلة ، التي يمكن دراستها ومحاولة اكتشاف خصائصها بواسطة التجارب والاختبارات العلمية أو المعملية ، ولكن حين ننظر إلى الإنسان من حيث البعد الجوهري له الذي خلقه عليه الحق تعالى نجد أنه يتكون من ( طين ) نفخ فيه ( الروح ) بحسب ما يصفه لنا كلام الله تعالى . وعلى هذا يكون الأصل الماهوي للإنسان من حيث البعد القرآني هو ( الطين والروح ) .
هذا الأصل الماهوي هو الذي يعبر عنه بحقيقة الشيء أوكنهه ، فهو يمثل هنا ما يعرف اصطلاحاً بـ ( الحقيقة الإنسانية ) .
وعلى هذا فما يراد بالحقيقة المحمدية هو : الجانب الماهوي منها لا الصوري المظهري ، فما هي الحقيقة المحمدية  أو ماهوية سيدنا محمد  صلى الله عليه وسلم ؟ وهل تختلف عن الماهية الإنسانية الاعتيادية ؟
لو عدنا إلى القرآن الكريم الذي أخبرنا أن الماهية الإنسانية تعود إلى ( الطين ) لوجدناه يخبرنا أن ماهية سيدنا محمد  صلى الله عليه وسلم لا تعود إلى هذا الأصل ، بل تعود إلى محض النور الإلهي المطلق ، يقول تعالى : ( قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نورٌ وَكِتابٌ مُبينٌ . يَهْدي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ )   .
فلنتأمل قوله تعالى : ( مِنَ اللَّهِ نورٌ ) والذي يعني أنه نور من نور الله تعالى ، تمثل وتجسد بهيئة الرسول صلى الله عليه وسلم  ، كما تمثل جبرائيل عليه السلام  بهيئة البشر السوي لمريم (عليها السلام) . فلا فرق بين تمثل الطين وتجسده بهيئة الإنسان السوي وبين تمثل النور الإلهي بهيئة الرسول صلى الله عليه وسلم   .
فهذه هي حقيقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم  : أنه نور محض تكثف وتجسد بإذن الله تعالى حتى ظهر بالصورة النبوية في وقت معلوم رحمة للعالمين ، وتلطف عن رؤية الأنظار حين انتهى وقت ذلك الظهور حتى عاد إلى حالته المطلقة.