( وجهة عرفان )



يقول : « الإنسان  الكامل : هو عين الله المرئية التي كانت قبل القبل، فهي الأصل والثبات ، تبدو ثم تستخفي ، وتجيء وتذهب في دورات لا نهائية .. سره في صدره لا يطلع عليه أحد .
فكم من دورات قام بها ، وتجلى تارة في سيّدنا آدم ، وتارة في ساداتنا إدريس ونوح وموسى وعيسى عليهم السلام ، وغيرهم من الأنبياء وذوي الكمالات .
واحد زمانه لا نظير له . يأخذ عنه الناس ولا يأخذ عن أحد . عيناه نجمان ، ووجهه نور ، ولسانه سيف نطاق بالحقيقة . هو الكامل المكمل ، سبحان من أبدعه . له ، وبسببه خلقت الأكوان ، وبين يديه سجدت الملائكة .
كان روحاً في العرش من قبل أن يخلق العرش . وكان ظلاً في الشمس يوم لم يكن هناك ظل . لا يحتويه شيء وإن احتواه جسم .
العناصر التي تكون منها ، طهور ، وصفاته إلهية ، وهي مزيج عجيب متآلف من الشدة واللين والحلم والحزم والغضب والصفح والشجاعة والرقة والإقدام والإحجام .
هو يخاف بالله ولا يخشى إلا الله . له أطوار غريبة . تراه في مشرق الأرض تارة وطوراً في مغربها ، وله مع نجوم السماء حديث وصلات . تأتيه الآيات طوعاً وكرهاً ، فهو المتصرف بأسرارها . لا يستطيع أحد إنكاره ، وإن كان أعداؤه يرمونه بالكثير من التهم لتحديه إياهم بإتيانه بالخوارق والمعجزات وحدوث الكرامات على يديه .
له في الشريعة فصل كفصل السيف ، يحل الحلال ويحرم الحرام ، وأحياناً يدخل  هذا في ذاك لحكمة لا يعلمها إلا هو ، قال سبحانه : ( يولِجُ الْلَيْلَ في النَّهارِ وَيولِجُ النَّهارَ  في الْلَيْلِ ) . فمن غير سيد الأكوان المصطفى  صلى الله عليه وسلم من خضع له كل متكبر جبار ؟! إذا شاء أن يهدي الضال فعل ، وإذا شاء أن يضل المهدي فعل ، إلا أنه لا يتصرف إلا بمقدار ، ولا يخرج على شريعة الله في خلقه ، وكيف يفعل وهو ما جاء إلا ليضع النقاط على الحروف فيوضح المبهم ويفسر المشكل ويؤول ما عزَّ تأويله سبحان من خلقه . لو أن الدنيا وما فيها وزنت به لرجحها ، ولو جمع جليل أعمال الصالحين لفاقه .. وكيف لا يفعل وهو ينبوع الجمال ومعدن السعادة . خالد مخلد إن جاء وإن ذهب . جسمه محفوظ في دورات ودورات ، لا يناله فساد الأرض ، فهو أعز من أن تأكله الديدان والأتربة .
إذا استمعت له سحرك ، وإذا نظرت إلى عينيه بهرك ، وإذا اتبعته هداك . يثبت لك بغير يقين العقل أنه صاحب اليقين ومليكه ، ويألفه قلبك ويحبه فؤادك ، وتدخله حتى على عيالك بغير إذن . فهو نور ، محتواه نور ، ومظهره نور وجسمه نور .
إنه الإنسان الكامل ، جامع أعيان الصفات . له يسجد ما في الشرق وما في الغرب . تكلمه الحيوانات والطيور فيسمع لها ويبكي خشية من الله خالق الأكوان . عابد متفرد ، له في الكهوف والغيران إقامة ، وله في كل مكان علاقة تدل على أنه ما عرف ربه إلا بربه في ظلال التوحد والتفرد . قصد الناس ليدلهم على الله فعبده الناس فخاف .
ظهوره ظهور الله على التأكيد ، إذ كيف السبيل إلى إظهار ما لا يظهر إلا بالموجودات والمخلوقات . وما خلق سبحانه إنسانه الكامل إلا ليظهر به . لا تحاول معرفة سره فذلك من شأن علام الغيوب ، ولا تحمل أقواله على ظاهرها لئلا تخلط بين ظاهر الكلام وباطنه فتعمى عليك الحقائق فتكفر . إن قال أنا الله وأنا الحق فإنما فعل ذلك لشدة احتراقه بنيران السطوع والجلال .. وإن قال جل جلالي فكأنه عبد فتنه حب سيده فلبس ثيابه وجلس في مجلسه وادعى أنه من فرط حبه له .
هو هو على الحقيقة وما هو هو . ظل العرش الممدود يوم لا ظل إلا ظله . ينظر الله إليه ويباهي الملائكة . لو أراد أن يقبض على التراب فيجعله في قبضته ذهباً لفعل ، ولو شاء لأمر من في الأرض كلهم جميعاً فانقلبوا وأنشئوا نشأة أخرى ، ولكنه على قدر عظيم قدرته على ما هو حذر محاذر . ليس له من الأمر شيء ، فهو في قبضة  ربه يحركه كيف يشاء ، وله مجلسه ومنامه ومأكله وغدوه ورواحه » .