( العبد الذّاتي ) للإمام عبد الكريم الجيلي قدس الله سرّه :


اعلم أن الله تعالى لما أراد أن يظهر من تلك الكنزية المخفية وأحب أن أن يخلق هذا العالم الكونى لمعرفته. كما ورد فى قوله تعالى فى الحديث القدسى: (كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق).
وكانت الموجودات فى ذات التجلي الأزلي موجودة فى علمه أعياناً ثابتة، قد علم من قوابلها أنها لا تستطيع معرفة عدم النسبة بين الحدث والقدم، والمحبة مقتضية لظهروه عليه حتى يعرفه فخلق من تلك المحبة حبيباً أختصه لتجليات ذاته وخلق العالم من ذلك الحبيب لتصبح النسبة بينه وبين خلقه فيعرفوه بتلك النسبة. فالعالم مظهر تجليات الصفات، والحبيب صلى الله عليه وسلم مظهر تجليات الذات.
وكما أن الصفات فرع من الذات، كذلك العالم فرع عن الحبيب فهو صلى الله عليه وسلم واسطة بين الله وبين العالم.
والدليل على ما قلناه قوله عليه الصلاة والسلام: (أنا من الله والمؤمنون مني).
ولنا دليل آخر وهو قوله صلى الله عليه وسلم لجابر: (إن الله خلق روحه ثم خلق العرش والكرسى والعلويات والسفليات جميعاً منه).
وقد رتب خلق هذه الأشياء منه فى الحديث ترتيباً واضحاً لا إشكال فى أنها فروع له هو أصلها.
ويدل على ما أوردناه قوله صلى الله عليه وسلم: (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين).
لأنه يعلم من ذلك أنه كان واسطة بين الله وبين آدم، حتى ظهور آدم وكمل وجوده. إذ النبوة المحمدية إنما هى بقوة التشريع، وهى عبارة عن الوساطة بين الله وبين العبد. فتخصيص الحديث بذكر آدم دليل واضح بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واسطة بين الله وبين آدم، حتى بُعث آدم نبيا لأجل النسبة المحمدية. وإذا كان آدم معه تلك المثابة فما قولك فى ذريته. إذ ذلك من باب الأولى، ولهذا أخذ الله من أجله الميثاق على النبيين أن يؤمنوا به، وينصروه.
فقال عز من قائل: (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) .
وتنكير الرسول هنا للتعظيم باتفاق المفسرين لا لكونه غير معروف فضل قوله تعالى للأنبياء. (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) ، دليل على أنهم لم يدركوا الكمالات المحمدية بالكشف حتى تكون لهم مشهودة، وسبب ذلك أن الفرع لا سبيل له إلى أن يحيط بالأصل. فأخذ الله عليهم الميثاق أن يؤمنوا بكمالاته إيماناً بالغيب ليكون ذلك سبباً لهم إلى المفاوز الذاتية فيحصلوا بذلك فى مراتب الأكملية، ويلحقوا به لعلمه أنهم لا يدركون ذلك إلا بواسطة محمد صلى الله عليه وسلم.
وسَرُّ هذا الأمر أنه مظهر الذات. والأنبياء مظاهر الأسماء والصفات وبقية العالم العلوى والسفلى مظاهر أسماء الأفعال ما خلا أولياء أُمَّة محمد فإنهم كألأنبياء مظاهر الأسماء والصفات لقوله صلى الله عليه وسلم: (علماء أمتى كأنبياء بنى إسرائيل).
فإذا علمت أنه كان سبباً بين الله وبين أنبيائه فعلمك بكونه سبباً بين الله وبين الملائكة يكون من طريق الأولى لما ذهب إليه الجمهور: إن خواص بنى آدم أفضل من خواص الملائكة. فإذا صح أنه صلى الله عليه وسلم نسبة بين الله وبين خواص الإنس والملك.
فمن طريق الأولى أن يصح كونه صلى الله عليه وسلم نسبة بين الله وبين عوالمها. وبقية الموجودات عطف على هذين الجنسين.

فعلم مما أوردناه انه لو لم يكن صلى الله عليه وسلم موجوداً لما كان شئ من الوجودات يعرف ربه، بل لم يكن العالم موجوداً لأن الله ما أوجد العالم إلا لمعرفته. فلوا أنه علم من قوابلهم عدم المعرفة لعدم النسبة لما كان يوجدهم بل أوجد النسبة أولاً ثم أوجدهم من تلك النسبة لكى يعرفوه بها. ولو لم تكن النسبة لم يكونوا.
وإلى ذلك أشار الحديث القدسى فى قوله للنبى صلى الله عليه وسلم: (لولاك لما خلقت الأفلاك).
ولما كان صلى الله عليه وسلم علة لوجود العالم، وسبباً لرحمتهم، وواسطة بين الله وبينهم، وإنما كان له مقام الوسيلة فى الآخرة لأن الخلق توسلوا به إلى معرفة الله تعالى، وتوسلوا به فى الوجود لأنهم خلقوا منه وتوسلوا به فى كل خير ظاهر وباطن فهو صاحب الوسيلة.