لقد تم لنبيناe،
بالمعراج، عروجه من عالم الملك (عالم الأجساد) إلى عالم الملكوت (عالم الأرواح)،
وذلك في معنى عروجه من مقام نبوته إلى مقام ولايته – أو من شريعته (سنته) إلى
حقيقته (الحقيقة المحمدية).. وهذا المقام هو المعبر عنه في القرآن بقوله: (ما زاغ
البصر وما طغى)، أي ما اشتغل الفكر بالماضي، ولا بالمستقبل، وإنما استغرقه الشهود
الذاتي في اللحظة الحاضرة، فدق هذا الفكر حتى ألغى نفسه – وبذلك تم رفع حجاب
الفكر، وهو المعبر عنه في الحديث (بالحجاب الأكبر عند سدرة المنتهى).. و(المنتهى)،
هنا، هو منتهى إدراكات العقول، ومبتدأ إدراكات القلوب.. فصار محمد قلبا كله: (ما
كذب الفؤاد ما رأى) حيث توحدت ذاته المحدثة فشهد الذات القديمة – خرج من الزمان،
والمكان، وهو المعبر عنه باختراق السموات السبع وتجاوز سدرة المنتهى، حتى شهد من
لا يحويه الزمان، ولا المكان، فحقق (الحقيقة المحمدية)، وقام مقام ولايته (المقام
المحمود)، والمعبر عنه بقوله تعالى: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك
ربك مقاما محمودا).. وهذا المقام هو مقام الوسيلة المعبر عنه بقوله، صلى الله عليه
وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ، فإنه من صلى عليَّ
صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا
تنبغي إلاّ لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه
الشفاعة.. ) – رواه مسلم وأحمد..
فالنبيe
من مقام نبوته، إنما كان يطلب مقام ولايته (الوسيلة)، مما يدل علي أنه مقام فوق
مقام النبوة.. والوسيلة هي وسيلة الذات الإلهية إلى سائر الخلائق.. فليس بين هذه
الوسيلة وهذه الذات أحد، وإنما هذه الوسيلة بين الذات والخلائق.. والوسيلة هي
(الخليفة) الذي يخلف الذات الألهية على تسيير الخلائق نحو مرضاتها.. وهو أول قابل
لتجليات الذات الألهية المطلقة.. هو قيد الذات المطلقة، في معنى ما هو يقيد (يجسد)
في كل جزئية زمنية دقيقة، من المطلق، ما يزداد به، هو، كمالا، وما يسوق به الخلائق
نحوه كمالا.. فإن الذات الإلهية مطلقة، فالمعرفة بها ممتنعة، وهي لكي تعرف تنزلت
في أول مراتب القيد إلى مقام الحقيقة المحمدية.. وعن هذا التنزل جاء الحديث
القدسي: (كنت كنزا مخفيا، فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق، فتعرفت اليهم، فبي عرفوني).. أي بالحقيقة
المحمدية عرفوني.. وعن هذا المقام قال النبي في حديث جابر الأنصاري: (أول ما خلق الله نور نبيك
يا جابر).. ونور نبيك أي حقيقة نبيك، أو ولاية نبيك.. وهو المقام الذي منه
انبثقت جميع مراتب الوجود: الملكوت، والبرزخ، والملك، ومنه جاء الملأ الأعلى،
والملأ الأسفل، ومنه استمدت جميع النبوات، والرسالات، والولايات أنوارها.. حيث إنه
(الخليفة) الذي تنزلت منه أول خلافة (نبوة) علي الأرض: (وإذ قال ربك للملائكة إني
جاعل في الأرض خليفة).. ثم أخذت النبوات تتنزل منه، وهي تستمد نورها من نوره، فتجسده،
في الأرض، شيئا فشيئا، بمقتضى حكم الوقت، حتى تنزلت منه أكبر إلمامة نبوية من
الملكوت بالملك (الأرض) وهي نبوة نبيناe، فتأذن الله تعالى بعهد جديد بتمامه يكون
تمام التجسيد للحقيقة المحمدية على الأرض.. هذا المقام هو مطلوب الملأ الأعلى،
والملأ الأسفل، لقوله في الحديث النبوي: (إن الله احتجب عن البصائر،
كما احتجب عن الأبصار، وإن الملأ الأعلى ليطلبونه كما تطلبونه).. والملآن إنما
يطلبانه في معنى ما يقربان صفاتهما من صفاته، بما يجسده لهما من كمالات المطلق،
والتي إنما هي ميراث هذين الملأين بما يؤول اليه أمرهما في السرمد.. (تخلقوا بأخلاق الله، إن ربي
على سراط مستقيم).. هذا المقام هو، بذلك مقام الإنسان الكامل، الذي يستمد كماله من
الكمال المطلق.. هو ليس مطلقا، وإنما هو محتاج إلى المطلق، ومنفتح عليه يقيد منه
ما يطيق هو، وما تطيق الخلائق من تجليات هذا المطلق، ثم يظل هذا المطلق مطلقا في
إطلاقه.. هذا هو المقام الذي قامه النبي الكريم في المعراج، وهو مقام ولايته..
تنزل الحقيقة المحمدية من
الملكوت إلى البرزخ، ثم إلى الأرض:
لقد ألمّ لسيّد الوجود e في معراجه، بمقام حقيقته، فشهد الذات
الإلهية، شهودا ذاتيا، بلا واسطة، حيث كان، في تلك اللحظة، بعد تخلف جبريل عنه،
على صلة مباشرة بهذه الذات، وهي صلاة الحقيقة (الصلاة صلة بين العبد وربه)، وهي
صلاة الأصالة.. ولقد عاد النبيُّ من تلك الإلمامة بمنهاج صلاة الشريعة – صلاة
المعراج (الصلاة معراج العبد إلى ربه) لتكون صلاة شريعته
وسيلة إلى صلاة حقيقته.. وقد مناه الله أن يبلِّغه، بهذا المنهاج، ذلك المقام
المحمود: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) – أن يبلِّغه بمنهاج
نبوته، مقام ولايته.. ولقد ظل، في كل لحظة من لحظات حياته، يعرج نحو ذلك المقام،
في معنى ما كان يأخذ في تجسيده، في اللحم والدم، وفي إنزاله من عالم الملكوت إلى
عالم الملك، وذلك في سعي حثيث عبر عنه أصحابه بقولهم :(كان النبيe كأنما نصب له علم فشمّر يطلبه).. وهويسألهم الدعاء
له ببلوغ ذلك المقام بمثل قوله: (ثم سلوا الله لي الوسيلة)، من حديثه السالف..
فكان، بمنهاج نبوته (السنة) إنما يزداد تيقظا، في الشعور، وصفاء، في الفكر فيزداد
تحقيقه لدرجات مقام ولايته من جهة، ويزداد استعداده لواجبات مقام رسالته، من جهة
أخرى.. وعن استمرار يقظته الداخلية تلك قال: (إنه ليغان على قلبي حتى
استغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة)، وقال: (إنه غان
أنوار لا غان أغيار)، أي حجاب فكر، لا حجاب شهوة.. وبهذا النهج كان يرقى المراقي
في مقام ولايته (المقام المحمود) حتى بلغه عند التحاقه بالرفيق الأعلى، فنزل إلى البرزخ (وهو عالم ما بين الدنيا
والأخرة، أو عالم الملك وعالم الملكوت)، وهو متحقق بهذا
المقام.. وكان جبريل قد بشره ببلوغه، وهو في النزع، كما جاء في الحديث: (إن الله
عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول: كيف تجدك؟؟ وهو أعلم بالذي تجد منك، ولكن أراد أن
يزيدك كرامة وشرفا، وأن يتم كرامتك وشرفك على الخلق، وأن تكون سنة أمتك.. فقال:
أجدني وجعا.. قال: أبشر، فإن الله تعالى يريد أن يبلغك ما وعدك)!! يشير إلى
(المقام المحمود) – .
وهكذا حقق النبي الكريم e حقيقته المحمدية تحقيقا ملكوتيا، بمعراجه،
وتحقيقا برزخيا، بانتقاله، فشد ذلك المقام إلى الأرض، وقربه اليها، حتى أخذ يرفرف
عليها، يكاد أن ينزل فيها.. ثم إنه قد أخذ، من برزخه يعمل، عملا روحيا، متناميا،
ومتعديا، وهو يمهد الأرض، ويعد المكان، والوقت، حتى يتحقق ذلك المقام، تحقيقا
مُلكيا.. أما التمهيد المادي فيتمثل فيما تحقق للبشرية في القرون الماضية، منذ
انتقال النبي، من تطور في حياتها المادية، وما صحب ذلك من استعداد فكري، وتطلع
أخلاقي لقيم المسئولية والحرية.. وأما التمهيد الروحي فيتمثل في الإمداد الروحي
الذي ظل النبيُّ يتعهد به الأولياء من آل بيته، ومن الصوفية، من أنوار ولايته، وهم
يأخذون أنفسهم بمنهاج نبوته (سنته)، ما وسعهم حكم الوقت، وهم على يقين بأن حياته
قد كانت قبل البعث، كما كانت بعده، على نهج السداد، حيث إن نبوته أزلية (قد كنت نبيا ولا آدم، ولا
ماء، ولا طين)، وبأن حياته، بعد انتقاله، ممتدة، بأكثر مما كان قبل انتقاله،
وهو القائل: (حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم).. ولذلك ذخر منامهم،
وذخرت يقظتهم بشهوده، وهو القائل (من رآني في المنام فقد رآني
حقا، فإن الشيطان لا يتمثل بي).. وفي رواية (من رآني في المنام فسيراني
في اليقظة).. وقد أخذوا منه مناهج طرقهم التي علموا وربوا أتباعهم، بها،
فحفظوهم بها على جادة الدين، في وقت انحطاط أمر الدين، وارتفاع أمر الدنيا، في
الصدور.. وذلك حتى يحين وقت طريقة الطرق– الطريقة النبوية (السنة) فيتأذن الله
بظهور الحقيقية المحمدية علي الأرض، إنسانا كاملا يسعى.. والإنسان الكامل هو الذي
بشر به النبي الكريم eبقوله: (لو لم يبق من عمر الدنيا
إلاّ مقدار ساعة لمد الله فيه حتى يبعث رجلا من آل بيتي يملأ الأرض عدلا وقسطا،
كما ملئت ظلما وجورا!!)، ذلك المسيح المحمدي الذي هو من آل البيت النبوي نسبة، ثم هو
الحقيقة المحمدية مقاما..