**الوصف والواصف والموصوف**

البرفيسور عزام أبو الليث حفظه الله :
الصفة: نعت " ما يقوم بالموصوف كالعلم والجمال " أي : الأمارة التي يُعرف بها الموصوف, وَصَفَ يَصِفُ وصفاً :الشيء نعته بما فيه, الموصوف:أي: اتصف الشيء وأمكن وصفه, والرجل صار معرفاً بحسن صفاته.
الصفة بلا شك تتبع الموصوف وتلازمه ,وكل موصوف يتبدى لنا من خلال التخيل أو من خلال الشعور، أوصافه, إذا كان من جنس الموصوفات, كالمخلوقات التي تقع تحت طائلة النظر أو الحواس, فلا موصوف حين ينأى عن الحس والإدراك, وليس من جنس المخلوقات ولا صفة له.
من هنا نبدأ ونقول أن خطاب الحق تعالى هو مجموعة إحالات يحيلنا الحق بها إلى مرامي عديدة تلتقي في النهاية عند هدفٍ واحد وهو الله تعالى,فالحق هو مدار البحث وإليه يتوجه القصد والعزم ,وحتى لا تأخذنا مسارات البحث في طرقٍ مغلقةٍ ومن باب اختصار الزمن وبحسب مقتضى الرحمة الإلهية أقترح علينا الحق أن نلجأ ركنٍ وثيق .
يقول تعالى :(مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى(
يحيلنا الحق إلى آيةٍ لا لكي نقرأها فحسب بل يجب علينا تأملها بدقة لأنها سترشدنا إلى الركن الوثيق , يتضح في هذه الآية أن هناك رمية لرامي وقعت فيها شركة لأثنين من حيث ظاهر الآية هما الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ,( الواو )في بدء الآية للعطف و(ما) للنفي) فيكون معنى الآية نفي إثبات لرمية الرسول_ومن ثم إثبات(إذ رميت)ثم يعقبها نفي وتأكيد أن الرامي هو الله تعالى .
إن معطيات التأمل تحيلنا بلا شك إلى حقيقة مفادها أن الحق تعالى قد رمى بيد رسوله صلى الله عليه وسلم ,أي : أن هناك توحد جرى في الرمية ومن خلال هذا نستطيع أن نصف الرمية الإلهية من خلال مشاهدة نفس الرمية والوصف الذي جرت به في يد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .
خلاصة ما تقدم, أن فعل الرسول الذي يظهر الصفات ,هو عين الفعل الإلهي الذي يظهر صفات الحق تعالى , من هنا نستطيع القول أن فعل الرسول هو فعل الله تعالى ,من هنا جاءت الإشارة لتؤكد ما ذهبنا إليه بقوله تعالى : (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) أي :أن الفعل الذي أجراه وإن كان يبدو على يديه ,لكنه على سبيل التحقيق يعود للحق تعالى .
من هنا نستطيع القول أن الصفة التي يظهرها الفعل المحمدي سواء كانت ممثلة للرحمة أو للرأفة أو للعزة أو لغيرها من الصفات إنما هي في حقيقة الأمر إظهار الحق تعالى لصفاته من خلال الحقيقة المحمدية ظاهراً وباطناً ,توجه الحق لنا من خلال مجلى الحقيقة المحمدية, ذلك بسبب عدم المناسبة النورية بين الحق تعالى والخلق ,مما اقتضت حكمته ورحمته تعالى أن يجعل من الحقيقة المحمدية أو ( الإنسان الكامل ) برزخاً يتوسط ما بين نور الذات والمخلوقات , يقول تعالى :(قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ(.
الجبل بما دل عليه , وموسى عليه السلام بما كان عليه لم يصمدا أمام تجلي الحق تعالى فكيف لنا أن نشهد صفات الحق دون توسط أو برزخ ؟
ما من شك أن هناك تفاضل بين الرسل في المقامات ,يقول تعالى) : تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد (وإن للحقيقة المحمدية النصيب الأكبر في هذا التفاضل من كونها تجسيداً للنور الإلهي, كما دلت عليه الآية الكريمة(قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ(والنور في هذه الآية يراد به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم , إما الكتاب فهو القرآن الكريم .
لقد جرى تقديم النور على الكتاب لشرف الأول على الثاني وتوسطه بين الذات والخطاب الإلهي ,كما أن الحق يكاشفنا بهذا التقديم أن امتداد النور الإلهي لا يمكن أن يتخلله شيء فهو نور تنزل وتجسد بحسب مقتضى الرحمة الإلهية من اجل إيجاد مناسبة بين الحق والخلق ,يقول تعالى :(فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ (,ويتميز مقام الحقيقة المحمدية عن غيرها من مقامات الرسل والأنبياء عليم السلام من خلال قوله تعالى :  (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (إذ لولا حقيقته النورانية وإنه حقاً امتداد نور الله تعالى لما حصل له الدنو ,في حين أن تجلي نور الحق على الجبل لم يبق لموسى عليه السلام حالاً للمشاهدة فخر صعقاً.
من هنا يتضح أن الحقيقة المحمدية تسمو عن أية مرتبة من مراتب الوجود لأنها تمثل امتداد النور الإلهي , وطالما هي كذلك فلابد لها أن تكون بمثابة الأب للأكوان وهي في الوقت ذاته أم الإمكان ,فظهرت الأكوان وبقيت بفضل فاعليته وقابل حقائق الأشياء فأعطاها ما تستحقه من قوابل بفضل قابليته ,فتناسلت مراتب الوجود بعضها من بعض بشكلٍ تراتبي لما لها من قابلية وفاعلية ممنوحة من الحقيقة المحمدية .
فالحقيقة المحمدية بهذا الوصف هي الظاهرة بكل مظهر يتبدى للعيان وهي المتجلية في مجالي الخلق بكل تفاصيله سواء كان مادياً أو روحياً,وطالما أن الصفات لا تظهر إلا من خلال الأفعال وإن الفعل مناط بالروح والروح من تجليات الحقيقة المحمدية المطلقة ,فإن جميع الصفات تعود في حقيقتها للحقيقة المحمدية والتي هي بنفس الوقت وصف وأوصاف الحق تعالى , من هنا نستطيع أن نقول أن الحقيقة المحمدية هي الوصف لله تعالى .
يقول تعالى) :وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى(.
يتضح في هذه الآيات أن خير من مثل صفة الرحمة الإلهية هي الحقيقة المحمدية ,فكل صفة تندرج تحت دائرة الرحمة نشعر بها أو ندركها هو شعور وإدراك للصفات الإلهية , فالرأفة والصفة الرحيمية وما يدخل معها من أسماءٍ حسنى هي وصف للرحمة ولله تعالى في الوقت نفسه ,فمن هذا الباب إذا دعونا الله أو الرحمن من اجل الحصول على بركة أي اسمٍ فإن الاستجابة سوف تتم , وهذا يعني أن الحق يكاشفنا بحقيقةٍ كبرى من حقائقِ نوره الذي صيرهُ وسيطاً بين الذات والخلق لكي نتعرف إليه ولنا معه تناسب وتجاذب ومحبة وتعامل وطاعة وهكذا من أواصر علاقات .
ومن أجل استمرار معطيات الرحمة الإلهية لم يجعل تعالى لنوره حد ينتهي عنده فهو في ديمومة مستمرة ,يقول تعالى(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (ثم جعل تعالى لهذا النور حملة هم بمثابة النواب للحقيقة المحمدية لتستمر معنا مناسبتهم كبشر مثلنا من جهةٍ ويستمر معهم امتداد النور لأهليتهم واستعدادهم لذلك ومن اجل أن يكونوا أنموذجا للفرد في كل زمان ومكان من باب ,(لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً(فكانت الخلافة العظمى جعلاً ولازمت وجود الأرض لتفي بحاجة الزمان والمكان , يقول تعالىوَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (, ومن أجل أن لا يتوهم بنوا آدم بتعميم هذا الجعل , جعل له تعالى وجهين , الوجه الأول يراد به الفرد الإنساني أنا وأنت من كون كل واحدٍ منا خليفةً على نفسه وعليه تقع مسؤولية الرقي بها بما يرضي الله تعالى , والوجه الثاني الخلافة الكونية ونيابة الحق على الخلق كما جاء في قوله تعالى) : يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ(
الحقيقة المحمدية وكنزية الكلام :
يقول تعالى :(وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (اتصل النطق بالناطق, والناطق ينطق بالحق تعالى , فنزه الحق الحقيقة المحمدية , أن تنطق عن الهوى وهنا يظهر مستوى آخر لخطاب الحق يبين فيه باب المناسبة والتفصيل والإيضاح وجميعها من باب الرحمة ,فالحقيقة المحمدية واستتماماً لمقتضيات الرحمة تفصل خطاب الحق وتوضحه وتجعله مناسباً للعقول ومقبولاً لدى الكل , إلى جانب كونها وحي الحق الذي يوحى بها ومن خلالها التفصيل لكل مرتبة من مراتب الوجود , يقول تعالى(وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (توجهت إرادة الذات إلى تعليم النحل , فاتخذت الحقيقة المحمدية على عاتقها التفصيل والإيضاح والتعليم الدقيق لأن الاعتناء من اختصاص الرحمة .
يعتقد الجيلي , أن كلام الله تعالى في الجملة صفة نفسية واحدة لها جهتان : الجهة الأولى لها نوعين : النوع الأول: الكلام الصادر عن مرتبة العزة للأكوان وهو الكلام الذي تسمعه فتطيع , وإلى هذا أشار تعالى بمخاطبته للسماء والأرض) : ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (والنوع الثاني: الكلام الصادر عن مرتبة الربوبية كالكتب المقدسة والمكالمات للأنبياء والأولياء ،أما الجهة الثانية : فإن كلام الحق نفس أعيان الممكنات ،فكل ممكن كلمة من كلمات الحق ولهذا لا نفاد للممكن .
من هنا يتضح أن هناك نوعين من الكلام : الأول إجمالي تصدره الذات بتوجهٍ أحدي غايته إيجاد الوجود من خلال المرتبة الواحدية ،والثاني تفصيلي انبجس عن الكلمة الإجمالية توجه فاختص بإيجاد مراتب الوجود جملةً وتفصيلاً ، بالإضافة إلى توجه المرتبة الواحدية بالإفاضةِ لمرتبة الربوبية من أجل أن تعتني المرتبة الأخيرة بتربية ما يليها من المراتب التي تستحق العناية والتربية ،إن المراتب التي أشرنا والتي لم نشر إليها والمحصورة بين الأحدية والربوبية هي التي يطلق عليها الحقيقة المحمدية .
فكل المعارف والعلوم والتعليم والاعتناء وكلام الأولياء والرسل والكتب المقدسة وتفصيلاتها وصلت إلينا من خلال مرتبة الربوبية .
يرى أبن سبعين أن الموجودات نوعين : كليات وجزئيات ،فالكليات منها تسعة مراتب أولها الله عز وجل فاعل الكل وخالق كل شيء ، ثم العقل الكلي ( المبدع الأول )ومن ثم النفس ، والطبيعة ،والهيولى، والجسم المطلق ، والفلك، والأركان ، والمولدات .
فالمبدع الأول ُمفاضاً عليه من الحق تعالى بشكل مباشر لمناسبته في النورانية مع الحق أو لنقل هو أول تنزل من تنزلات الحق وطالما هو كذلك فإن قابليته لاستيعاب الفيض الإلهي تامة على الوجه الأكمل كما أن فيض المبدع الأول على ما تليه من مراتب تجري كما أُريد لها من الكمال , من هنا أتصف بالبرزخية العظمى من كونه يقابل الحق من وجه ويقابل الخلق من وجهٍ آخر .
وإليه ترجع عواقب المقامات كلها كما يرى أبن عربي وإليه تنظر جميع الأسماء الإلهية ( الصفات)التي اختصت بمراتب المقامات .
ويقصد بالنظر هنا ، أي:التخلق والاتصاف بالأسوة الحسنة بغية الوصول إلى أعلى مستوى ممكن من خلق الحقيقة المحمدية .

الحقيقة المحمدية ، قبولٌ من الواحد وإفاضة للكثرة:
يقول تعالى :(مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (عدم الانقطاع يعني الصلة أو الوصل الدائم , ولديمومة الوصل مغزىً إلهي يراد به استمرارية تدفق الفيض الإلهي بحسب مشيئة ومقتضيات الرحمة من اجل ديمومة الوجود وحيويته، فلا استمرار للوجود ولا حياة إلا من خلال استمرارية الفيض الإلهي المتنزل من الحقيقة المحمدية . فهي القطب الذي تدور عليها أفلاك الوجود من أولها إلى آخرها وهي الممدة لجميع الحقائق الوجودية ، ما دق منها في الصغر وما كبر منها , محلها الإنسان أينما وجد في كل زمان ومكان ، فيقابل الحقائق العلوية بلطافته والحقائق السفلية بكثافته ، والعرش بقلبه قال صلى الله عليه وسلم ( قلب المؤمن عرش الرحمن ) ويقابل الكرسي بآنيته ، ويقابل سدرة المنتهى بمقامه ، والقلم الأعلى بعقله ،واللوح المحفوظ بنفسه والعناصر بطبعه والهيولى بقابليته وهكذا جميع الحقائق الوجودية .
أن اتصال الحق تعالى بالحقيقة المحمدية كما ورد في قوله:(مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى( هو اتصال نوراني معرفي لا من اجل المُتصل به فحسب ،بل من اجل المراتب التي تنزلت عنه ،فكل ما يتغذى به الوجود من غذاء روحي ومعرفي أو معنوي أو مادي يأتي من خلال الإنسان الكامل لتوسطه بين عطاء الواحد ، والكثرة .
ويذهب التيجاني المذهب ذاته فيرى أن الحق تعالى اقتضى أن لا يقبل شركة الأكوان لأن الكبرياء الذاتي والعز الذاتي والعلو الذاتي والجلال الذاتي تقتضي كلها غيرة من وجود غيره سبحانه وتعالى فهو (كنز لا يعرفه غيره) أحب أن يعرف، وهذا تنزل منه وليس نزولاً عن المرتبة الأولى بل هو فيها أزلاً وأبداً لكن مشيئته اقتضت أن عالماً من الموجدات يتصرف فيه بإفاضة رحمته وعمومها وبظهور سطوات جلاله وعلوها وعبر عما تعلقت به هذه المشيئة هو التنزل ثم قال (فخلقت الخلق فتعرفت إليهم فبي عرفوني ) وكان تنزله إليهم بحكم المشيئة .
فكان حظ الحقيقة المحمدية ( الإنسان الكامل ) أول تنزلات الحق ، وهذه الحقيقة إذا ما نظرنا إليها من جهة الخلق فهي مخلوقة وخالقة للمراتب التي تحتها وإذا ما نظرنا إليها من جهة الحق تعالى فهي مخلوقة وإليها ولغيرها من مراتب الوجود جرت الإشارة الإلهية بقوله تعالى(فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ( .


ذلك لأنه تعالى مكن كل مرتبة من المراتب الكلية إيجاد المرتبة التي تليها، فالعقل الكلي ( الحقيقة المحمدية ) أُعطيت من التمكين من اجل إيجاد مرتبة النفس, ومرتبة النفس أعطيت من التمكين من اجل إيجاد مرتبة الطبيعة ، وهكذا إلى آخر مرتبة وجودية ،فنالت كل مرتبة صفة الخلق ونال مقام الحق تعالى صفة أحسن الخالقين .
فالحقيقة المحمدية أو الإنسان الكامل قد حفظ به تعالى نظام الوجود وبه يرحم جميع الوجود وبه صلاح جميع الوجود وهو حياة جميع الوجود وبه قيام جميع الوجود ولو زال عن الوجود طرفة عين واحدة لصار الوجود كله عدماً في أسرع من طرفة العين .
من هنا تتجلى لنا حقيقة الإنسان الكامل ويتضح لنا من خلاله أنه الصفة الوحيدة التي تليق بجناب الحق من حيث الوحدة والإجمال ، وهو المُظهر الوحيد لصفات الحق إلى الخلق فيكون هو ( الواصف ) وهو الموصوف بكل النعوت الإلهية لأن من يُظهر الصفات يستحق أن ينعت بها ، ولا يقع هذا النعت إلا لمن استحقه أصالةً ،فهو على الإنسان الكامل عارضاً وللحق تعالى أصالةً لأنه تعالى حقيقة كل موجود ومخلوق .
يقول تعالى :(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ( .
(إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ (الطاعة والبيعة والمحبة والاتباع إذا ما نظرنا إليها بتجرد يجب أن تكون لله تعالى , غير أن هذه الآيات تحيلنا إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أو من ينوب عنه من أُولي الأمر في كل زمان ومكان ، وكأن الحق تعالى يكاشفنا بحقيقة الإنسان الكامل فيجعل منه حضرته وسدرت منتهاه , فطاعته تفي بمقتضى ومتطلبات الطاعة الإلهية ، لانتفاء الأثنينية أي :أن امتداد النور الإلهي لا يعطي التجزئة أو التبعض يتعالى الحق عن ذلك علواً كبيرا ،وهذا يعني رجوع الطاعة والبيعة والمحبة والاتباع لله تعالى حقيقةً لا كما يتوهمه الغير ، فالنور هو هو والطاعة أينما وقعت لا تخرج عن النور كذلك المحبة والبيعة والاتباع .
الإنسان الكامل هو القطب (مركز الدائرة ) ومحيطها ومرآة الحق ، عليه مدار العالم ، له رقائق ممتدة إلى جميع قلوب الخلائق ..يقبض ويبسط وبيده العطاء ،(هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) ولابد لكل قطب عندما يلي مرتبة القطبية أن يبايعه الحيوان والجماد وكل شيء ما عدا الإنسان والجان إلا القليل منهم , به صلاح العالم وإليه ينظر الحق في الوجود .
من هذا المقام جاء الخطاب لأبي يزيد البسطامي ( توحد بوحدانيتي وتفرد بفردانيتي ، وارفع رأسك بتاج كرامتي , وتعزز بعزتي ، وتجبر بجبروتي واخرج بصفاتي إلى خلقي أَرَ هويتي في هويتك ومن رآك رآني ومن قصدك قصدني ، يا نوري في أرضي وزينتي في سمائي).
فالخلق هنا يرون صفات الحق من خلال قطب الوجود فتحصل لهم المعرفة بهوية الحق من خلال هوية القطب .