( نفس الرحمن )




الشيخ الأحسن البعقيلي الحسني قدس الله سرّه:
ولتعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم، عاش ثلاثاً وستين سنة ، فلم تمرّ له لحظة واحدة في جميع عمره وهو غافل، بل هو قطب قائم بأمر الله وهو في بطن أمه، إرهاصاً له.
وعدد الأنفاس لكل إنسان: أربعة وعشرون ألف نفس. نصفها صاعدة للهوى، ونصفها داخل للبدن. ثم لتعلم أن أنفاس العارف لا تضيع. فهو صلى الله عليه وسلم سيد العارفين. فأنفاسه مطلقاً عابدة لله وحامدة لله تعالى على أكمل وجه. ثم إن ما من نفس من أنفاسه إلا ووقع سره على جميع ذرات الوجود من تقدم ومن تأخر إلى ما لا نهاية لنعيم الآخرة. فتجسد جسم نفسه مع كل زمان وكل مكان وكل جوهر وكل عرض، لأنه روح الموجودات بأسرها.
والنفس الثاني كذلك، متجسد مع كل ذرة الوجود. فصدق عليه أنه عبد الله في كل نفس مع ذرات الوجود وبذرات الوجود. فذرات الوجود كذلك عبدت الله بألسنة أنفاسه صلى الله عليه وسلم. وهو سرّ الصلاة عليه بألسنة العوالم، فهو الممدّ بأنفاسه كلَ ذرة فعبدت الله. فنفس واحد منه له من الصور بعدد ذرات الوجود، والنفس الثاني كذلك، وسر على العدد حتى تعدّ أنفاس عمره من يوم ولادته إلى موته. فإنك تقف على ما يحير الأذهان من الصور النفسية النبوية. فببركة أنفاسه قامت العبادة لله بالله من يوم أنشأ الله الحقيقة الأحمدية إلى الأبد، وهو الذي روعي وجهه في زمن الأصنام. فما من دقيقة إلا وفيها كل نفس من أنفاسه ساجدة لله تعالى.
وإذا تنفس عارف في إقليم أسعد أهله. وقد تنفس في الأكوان كلها وهو روحها فكيف لا يحيط الكون على السعادة وكيف لا تسعد الجواهر والأعراض. وإنما خلى من سعادة أنفاسه المبغضون له ولآل بيته، الجاحدون لنبوته، وهو روحهم، لما سبق به القلم والقسم الإلهي.
ثم إن كل نفس من أنفاسه خلق الله منه صوراً عظاماً من الملائكة يعبدون الله ولا يعصونه، وكل ذلك يكتب له صلى الله عليه وسلم في صحيفته كما يكتب عدد صور الكائنات وثواب أعمالهم فإنه السبب في وجودهم وسعادتهم وبقائهم، فكل من عبد الله من سائر أجناس الخلائق يفاض عليه صلى الله عليه وسلم، ومن بركة أنفاسه طابت أنفسنا وأيامنا ولله الحمد، وهو الطيب، طاب الوجود به من النشأة إلى الأبد الذي لا نهاية له.
ثم إن لكل كلمة ولكل حرف عبد الله بها صورًا متعددة باقية ساجدة عابدة حامدة لله تعالى. وكذلك كل فعل منه له صور متعددة عاكفة على عبادة ربها ما دامت السماوات والأرض.

وكذلك خواطره، له سبعون ألف خاطر بين الليل والنهار، كلها ربانية حامدة عاكفة على عبادة ربها إلى الخلود الأبدي، فلكل خاطر صور متعددة يعلمها منشئها سبحانه، وهي كلها قائمة بأتم العبادة، وعبادة ذرات تراكيبه صلى الله عليه وسلم من الأشعار والمفاصل والعروق فرداً فرداً، وكذا كل ما تقدم من لوازمه. كل ذلك بالاسم الأعظم المكنون. ولكل صورة ما يعلمه الله من الألسنة والأصوات. فكل ذلك يذكر الله بالاسم الجامع المانع، فثواب ذلك كله في صحيفته. وقد علمتَ استمرار ما تقدم إلى الخلود الأبدي. وقد علمتَ أنه لو جمعت أهل الأرضين من جميع ما فيه روح ما وصلوا عشر ملائكة السماء الأولى، ما وصلوا عشر ملائكة الثانية، وهكذا إلى السابعة. فلو جمعت ملائكة السماوات والأرضون ما وصلت عشر ملائكة الكرسي، والكرسي وما في جوفه ما وصلت عشر رِجل واحدة من قوائم العرش، فكل ذلك سرت فيه روحانيته صلى الله عليه وسلم. ويعبد معها الله، فملك الله مشتمل على عجائب قدرته تعالى، فلا يحصى، ولذلك قال {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} ومعلومات الله غير متناهية في علم الحادث، ولذلك قال تعالى لسيد العلماء والعارفين {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} إرشاد من الله لخلقه بعدم إحاطة أحد بذرات الوجود وبحكمها وبما يراد منها أزلاً وأبداً. فليكتف العارف بالوارد مما بيّنه صاحب الوحي الذي لا يطرقه محو ولا خلل.