مواقف عند الحقيقة المحمدية



                              للدكتور حسن مظفر الرزو  حفظه الله
تعــد مسألة الحقيــقة المحمدية من المســائل العويصة لـــدى الســادة الصوفية بجميع طرائقهم ، ومشاربهم  وقد حرص أئمة التصوف على عدم البوح بجميع تفاصيل هذه المسألة بعد أن أودعت في خزائن معرفتهم ضمن المسائل المضنون بها على غير أهلها .
بيد أن لكل وقت من الأوقات نفحات ينبغي لنا أن نتعرض لها فنستمد من أنوارها، لكي تنعكس آثار الاستمداد على الارتقاء بالأحوال، وتبدل المقامات، لأن المكوث بلا تلوين يفقد المتصوف نعمة التلوين، وتغير الأحوال، وتدفق المعاني على القلب الذي لا حياة له بدون آثار أنوار الاستمداد من موارد المواهب اللّدنية  وفيوضات الحضرة المحمدية التي قام الكون بها، ولها .
وستكون لنا في هذه المواقف رحلة مباركة مع الحقيقة المحمدية التي تهيم الأرواح بآثار الجذبة لأنوارها ، وتطرب النفوس بالإصغاء إلى معاني ألفاظها، وتتواتر الأحوال مع كل معنى يدقّ باب القلب من معانيها، فيطرق مسامع الفؤاد  ويزداد الشوق، فيعم الوجد، وتتوإلى أنوار الكشف على مرآة القلب. بيد أن القلب يعتذر من اللسان على غلبة الوجد، بحيث تعجز المعاني عن القدرة على البوح باللسان ، لتوالي الفيوضات، ودقة عبارات الروح، التي تعجز الألسن عن النطق بها، فنلتمس العذر منذ البداية عــن دقة العبارة، وصــــعوبة حــل مستغلـــقاتها ، لأن المعاني إذا ارتقت ضاقت العــبارة عن الإفصاح عن مكنوناتها ، وعجز اللسان عن النطق بمرامي ألفاظها .

موقف  : الذات الإلهية والتجلــــيات الأسمائية
الأحدية هي تجليه تعالى لذاته بذاته، إذ لا غير في هذه المرتبة سوى ذاته العليّة . لأن لفظ الأحد ينفي أن يكون هناك اعتبار غير وسوى . فلا يحتاج البارئ في أحديته إلى تعيّن ، يمتاز به عن شيء إذ لا شيء . وهذه المرتبة مرتبة الكنه ، الذي لا ينكشف لأحد ، ولا يدرك بحس ، ولا عقل  فالأحدية ماهية للأنوار ، ماحقة لآثار السوى . والألوهية التي هي مرتبة الأسماء تطلب ظهور آثارها فتتوجه إلى الكون من خلال التجليات الإلهية لكي تتجلى أسماء مرتبتها، وتسري أنوارها على الكون فتمنحه الوجود العيني .  والحق تعإلى متجلّ من الأزل ، إلى الأبد . لا يزيد تجلّيه ولا ينقص، ولا يتغير . والتجليات كلها تنزلاته من سماء الأحدية الصرفة إلى أرض الكثرة ، حيث ظهور آثار الألوهية  والاختلاف والتعدد ، والحدوث المنسوب إلى التجلّي ، إنما هو للمتجلّى له بحسب القوابل والاستعدادات . ففي كل آن يحصل للمستعد تجلّ بحسب استعداده وقابليته على الاستمداد . وذوات المخلوقات عبارة عن ظهور الوجود الحق متلبساً بأحكام استعداد المخلوقات ، أي أعيانها، الثابتة في العلم والعدم  أزلاً وأبداً، وهي نسب الوجود الحق ، واعتبارات وإضافات لا عين لها في الوجود الحق .
 مراتـب بالـوجـود صارت  = حقائق الغيــب والعيان
وليس غير الوجـود فيها = بظــــاهر والجميع فان
فالوجود  ليس إلا للـذات العليّـة ، وكل ما قيـل فيه مرتـبة وتعيّـن ، وســــوى ، وغـير ، فهو اعتبار، ونسبة إضافة لا غير .

موقف  : الحقيقة المحمدية
الحقيقة المحمدية هي أول مرتبة وتنزّل للذات العليّة. والصورة الإنسانية هي آخر تعيّن وتنزل لها على أرض الكثرة والحدوث.  فلولا سريان الوجود من خلال الحقيقة المحمدية، ما كان للعالم من ظهور، ولا صح وجود لموجود، لبعد المناسبة، وعدم الارتباط. وخلاصة القول لا تصح نسبة وجود الموجودات، إلا بواسطة هذه الحقيقة الشريفة .
وللحقيقة المحمـدية أسماء كثيرة ، باعتبـــار وجوهها واعتباراتها ، منها : التعيّن الأول ، والإنسان الكامل ، والتجلّي الثاني ، وحقيقة الحقائق، والبرزخ الجامع ، وواسطة الفيض والمدد ، وحضرة الجمع ، ومركز الدائرة ، ونور الأنوار .
وإذا أردنا أن نصفها بعبارة أقل التباساً نقول : هي مجموعة صور آدم عليه السلام الظاهرة والباطنة . بمعنى آخر أن الحقيقة المحمدية هي تعيّن الحق لنفسه، بجميع معلوماته ونسبه الإلهية والكونية . فالوجود الحق ظهر في الحقيقة المحمدية بذاته ، وظهر في سائر المخلوقات بصفاته . فما صدر عن الله تعإلى بغير واسطة إلا هذه الحقيقة .
والحقيقة المحمدية هي المنيرة لكل سراج حسّاً ومعنى ، من نبي وولي ، لأنها المظهر الأول ، والحقـيقة الكلية الجامعة وهي المشهودة لأهل الشــهود ، وهــي التــي يتغزّلون بها  ويتلذذون بحديثها في أسمارهم !.
وكما أن الحقيقة المحمدية هي سبب خلق العالم ونتيجته وأكمل ثمراته، كذلك تتحقق بها وبالرسالة الأحمدية الكمالات الحقيقية للكائنات قاطبة ، إذ تصبح المخلوقات بجميع مراتبها الوجودية مرايا باقية للبارئ عز وجل تعكس تجليات أسماء الجمال والجلال .

موقف  : دائرة زمان الحقيقة المحمدية
ميز الشيخ الأكبر في فتوحاته المكية بين زمانين ، زمان بدأ عند اللحظة الأولى لدوران الأفلاك لكي تتعين المدة المعلومة عند الله تعـــإلى ، وتسري تأثيراته الكونية على الأرض التي نعــيش عليها . وزمن دشّن بدايته مولــــد فخر الكائنات محمد صلى الله تعالى عليه وسلم  . فعند الزمــــن الأول خلقت الروح المدبرة ، وبرزت الحقيقة المحمدية بوصفها الحقيقة الكونية الجامعة . وأما في الزمن الثاني فقد نال محمداً صلى الله عليه وسلم مقام النبوة ، وختمت بنبوته الرسالات حتى قيام الساعة .
وبمعنى آخر فإن الزمن الأول هو مرحلة بطون الحقيقة المحمدية  أما الزمن الثاني فهو زمن ظهورها وسريان تأثيرها الكوني على عالم الشهادة . وكان لها ( الحقيقة المحمدية) في الزمان الأول الحكم الباطن في جميع ما ظهر من الشرائع على أيدي الأنبياء والرسل سلام الله عليهم أجمعين ، أما في الزمان الثاني فصار الحكم لها ظاهراً عبر الذات المحمدية ، فنسخ كل شرع أبرزه الإسم الباطن بحكم الاسم الظاهر ، لبيان اختلاف حكم الإسمين ، وإن كان المشرِّع واحداً، وهو صاحب الشرع .
ومن هنا كانت الولاية ولايتان : ولاية عامة تباطن دورة الحقيقة المحمدية قبل تجليها في شخص محمد صلى الله عليه وسلم  وولاية خاصة بعد تجلي تلك الحقيقة في ذاته الشريفة . وتتميز وراثة مقام الولاية في زمن ظهور الحقيقة المحمدية عن الأولى بجملة أمور ، منها: أن « العلم في هذه الأمة (الإسلامية) أكثر مما كان في الأوائل ؛ وقد أُعطي محمد صلى الله عليه وسلم علم الأولين والآخرين لأن حقيقة الميزان (العدل في الكون) تعطي ذلك . ومن هنا أيضاً « كان الكشف أسرع في هذه الأمة مما كان في غيرها ». وهذا الانتظام في سلك النور المحمدي النور الذي يشكل الحقيقة الأولى التي أبدعها الله سبحانه وتعالى  والتي يقتبس منها الأنبياء أنوار النبوة  .