بسم الله الرحمن
الرحيم
وصلى الله على سيّدنا ومولانا محمّد وعلى
آله وصحبه وسلّم
ورضي اللّه عن شيخنا الجّيلاني وعن أتباعه
وورثته إلى يوم الدّين
تمهيد :
إنّ بحر
القرآن العظيم خضمّ، لاسيما إذا تطرّقت آياته الجناب الإلهي أو النّبوي، وإنّ
المفسّرين وإن أجادوا في اجتهاداتهم، إلّا أنّها مع المحيط المطلق كلا شيء .
واليوم
ومع ظهور ما يسمى بالتّفسير الموضوعي، كتخصيص للأهليات، واحترام للمجالات، طالما
تشوّقنا وتشوّفنا إلى من يمس الموضوع الرّوحاني في الكتاب والسّنة، ولكنّ السّاحة
خاوية على عروشها.
فتجرّأت
بحكم انتسابي للمشرب المحمّدي الصّافي، أن ألخّص فتوحات العارفين حول آية "
الصّلاة والسّلام" والتي هي أعجوبة في العرفان والوجدان، ولاغرو فإنّها من
كنوز القاموس المطمطم.
مطلب
ولاريب أنّ
هذه الآيات التي تتعلّق بالجناب الشّريف، تحتاج في تفسيرها وتأويلها إلى ذوق عميق،
وإلهام مركّز، لأنّ المستوى رفيع منيع.
وكما
أنّ السّادة العارفين يحترمون كلّ التّخصّصات، فياحبّذا لو احترم أرباب المجالات
الأخرى، الجانب العرفاني في القرآن والسّنّة، فلا يهجموا ولا يتجرّؤوا عليه، جهلا
أو تجاهلا.
ومن
أراد أن يؤمن بأنّ لكل فنّ أربابه، فليطالع مابين يديه من التّفاسير لهذه الآية
الكريمة، ثمّ لينظر إلى هذا المختصر البدائي، مع أنّه بكلّه ماهو إلّا من قبيل
التّفسير الإشاري، الذي له روابط بحروف الآية، أمّا التفسير الباطن والذي يخوض في
الآية من وراء اللّغة والكتابة، فذاك هو الفضاء المطلق .
﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾
· الفص الأول : ما سرّ التّوكيد في بداية الآية " إنّ "؟
1. فيه التّوكيد على مقام الصّلاة
الأعظم، الذي هو من الكمالات الأحمديّة، بل فيه إشارة إلى عزّة الصّلاة وغرابتها
عنّا، وهذا من قبيل "الإخبار الإنكاري" عند البلاغيين، وذلك على حسب
المخاطب، فإذا كان الخبر غريب عليه متردّد في قبوله، إستوجب حين ذاك التأكيد .
2. توكيد على وجوب الصّلاة عليه e، بعدما
أكدها بقيام ذاته هو سبحانه بالصّلاة عليه، لنعلم أنّ من وراء ذلك سرّ عظيم .
· الفص الثّاني : ما السرّ في إختيار حرف التّوكيد " إنّ "؟
3.
لما تحمله من إشارة خفيّة
إلى الصّلة العينيّة، لأنّ الألف يشير إلى الأحديّة، والنّون تشير إلى الحقيقة
المحمّديّة، فكأنّ الصّلاة دائرة ما بين الأحديّة والأحمديّة .
4.
وإن نظرت إليها من جهة
"حساب الجمل"، فالألف مرتبته إشارة إلى الحضرة الأحديّة، والنّون
مرتبتها إشارة إلى الدوائر الكونية، وفي هذا دلالة على أنّ الصّلاة هنا ستكون في
عالم الواحديّة، أي حال نزوله e وحلوله في الأكوان، وهذا هو مقام ( إنّي أبيت عند ربّي ) .
· الفص الثّالث : ما سرّ ذكر " لفظ الجلالة " دون
غيره ؟
5. صلّى بلفظ الجلالة ـ الله ـ الذي
هو علم على الذّات الأقدس، لأنّهe ذاتي
المحتد والمورد، فالصّلاة حالئذ تكون هويّة أحديّة، لا مطمع لأولي العزم في
إدراكها كنهها، فضلا عمّن دونهم .
6. ولكون لفظ الجلالة محيط بالأسماء
الإلهيّة، هيمنة الذّات على الصّفات، فكأنّ الصّلاة جاريّة من كلّ الأسماء بلا
استثناء، وفي هذا ردّ على من قيّد الصّلاة بالرّحمة، فأين بقيّة التّجليّات إذا ؟!
· الفص الرّابع : ما السّرّ في ذكر صلاته Y " إنّ الله"؟
7. للتّوكيد على أهمّيّة الصّلاة
عليه e، فكأنّه
يقول : إذا كان الرّبّ سبحانه بكبرياءه وعظموته يصلّي عليه، فلا بدّ على خلقه أن
يسارعوا إلى التّعلق بجنابه e .
8. إنّ هذا ديدنه سبحانه في
التّعلّق بالحبيب e، فإذا
أمرنا بشيء من ذلك، كفاه هو أولا بذلك، مصداقا لقوله تعالى : ( أليس الله بكاف عبده )
وقوله تعالى ( إلّا تنصروه فقد
نصره الله) وقوله تعالى : ( فاشهدوا وأنا معكم من الشّاهدين) ..
9. لإظهار مقام حبه تعالى لحبيبه e، بأنّه هو
الحبيب المصطفى المختارe .
· الفص الخامس : سرّ التّثنيّة بالملائكة " وملائكته" ؟
10.
ذكر الملائكة للتّأسّي بهم ، فكأنّه يقول : هاهم الملائكة على ما
هم عليه من الصّفاء والعلو، ولكنّهم متعلّقون بالجناب الشّريف، فكيف بكم أنتم ؟!
11.
لبيان قدر الحضرة المحمّديّة عند الله تعالى، حيث أنّ الملائكة
يتقرّبون بالصّلاة عليهe.
12.
والملائكة هنا : إشارة إلى تجلي الأسماء، لأنّ الملك مشتق من
المُلك، وسموا بذلك لمّا كانوا مظاهر للأسماء الجبروتيّة، فبعدما ذكر سبحانه صلاته
الذّاتيّة ثنّى بصلاته الأسمائيّة، ثمّ أمر المومنين أن يثلّثوها بالصّلاة
الأفعاليّة، ليتحقّق بهذا كثرة الحمد الموعودة للذّات المحمّديّة "سيّدنا
محمّدe" .
· الفص السّادس : ما السرّ في ربط الملائكة به تعالى " ملائكته"؟
13.
جاء الضّمير المضاف إليه سبحانه، ليقول لنا : من أراد أن يتّصل بي
عن قرب، فليصلّ على حبيبي e .
14.
والضّمير المتّصل في " ملائكته" يقتضي إستغراق كل
الأملاك، وأنهم كلّهم بلا استثناء يصلّون عليه .
15.
فيها إشارة إلى أنّ صلاة الملائكة عليه e، أبلغ من سجودهم لسيّدنا آدمu، لأنّه
قال في آيتها : ( وإذ قال ربّك
للملائكة ) ولم يقل ملائكته .
16.
بل إنّ السّجود هذا ما كان إلّا لأجله e، بدلالة
ضمير المخاطب في ( ربـّك ) والضمير هنا يشير إلى المحتديّة المحمّديّة، ولهذا قالوا أنّ
الملائكة ماسجدت إلّا لنور الحقيقة المحمّديّة، الذي لاح لهم من خلف الآدميّة،
ويقول سيدي علي وفا:
لَو أبـصَرَ الشيطانُ طلعةَ
نُورِهِ
|
في وجهِ آدمَ كان أولَ مَن
سَجَدْ
|
· الفص السّابع : ما السرّ في تقديم ذكره تعالى وملائكته على الأمر؟
17.
لم يقل سبحانه "يأيها الذين آمنوا صلوا..فإنّ الله وملائكته
يصلون.." بل قدّم ذكره وملائكته المقرّبين، وفي هذا زيادة في الإغراء، وتوكيد
على الحجّة، ولذا قالوا لولم يأمرنا سبحانه بالصّلاة عليه e، واكتفى
بذكر صلاته تعالى وملائكته، لكفى هذا حجّة على الوجوب .
18.
وإنّ في تقديم ذكره سبحانه وملائكته، مافيه من إعلاء شأنه e، حيث بادر
سبحانه بذاته أوّلا في الصّلاة، ثمّ ثنّى بملائكته المقدّسين، وهذا غاية التّشريف
.
19.
وإنّ في التّقديم هذا، دلالة على إستغناءه وكفايتهe بالله
تعالى، أي إنّكم مؤمورون بالصّلاة عليه e، فإن لم
تمتثلوا فإنّ الله وملائكته يصلّون، فلا حاجة لصلاتكم، بل ماهي إلّا تحصيل حاصل في
الحالتين .
· الفص الثامن : ماهيّة صلاة الله تعالى ؟
20.
المتفق عليه عند المحققين أنّها إشارة إلى
الصّلة العينيّة، بين الحضرة الأحديّة والحقيقة المحمّديّة، ولا جرم أنّ الصّلة
بين حضرتين مجهولتين، تكون مجهولة، فلا يجوز أن نعيّـنها بتكييف، ولا أن نحدّدها
بتوصيف.
21.
ذلك في الحقيقة، وأمّا في التّنزّل فهي
تجليات الحضرة الإلهية بكل ما يطلبه الإمكان، على حضرة الواسطة العظمى e ، ليفيض بها على كلّ ذرّة في الأكوان، بشاهد : ( الله المعطي وأنا القاسم)، فمن هنا وجبت علينا الصّلاة عليه، شكرا
للقاسم، وتوسّلا بالواسطة e .
· الفص التّاسع : ماهيّة صلاة الملائكة الكرام ؟
22.
هي تعلّقهم بالجناب المحمّدي الشّريف،
ودّا وتعظيما وتقديسا ..، جبلّة روحانيّة .
23.
وهم يشاركوننا كذلك في الذّكر بالصّلاة
عليه e، حيث يوكلون أمرها إلى مولاه، بموجب العجز عن الوفاء بحقه
العظيم e.
· الفص العاشر : ماهيّة صلاة المومنين ؟
24.
صلاتنا نحن هي إرجاع الأمر إلى مولاه
سبحانه، ليوفّيه حقّ قدره العظيمe، وذلك بلازم العجز ، كما تعطيه دلالة النّصوص، فالقرآن يقول : ( صلّوا عليه) والسّنّة في معرض التّعليم تقول: ( قولوا اللّهم صلّ على ..) .
25.
أنّها عبادة لله تعالى وذكر له، لأنّنا
بمجرد الذكر بها تجزل لنا الحسنات والدّرجات، وتتنزّل علينا الأنوار والأسرار.
26.
أنّها وسيلة إلى الله تعالى ليفيض علينا
بعائد صِلاتها، فلمّا كان هو الواسطة العظمى في الإمداد، كان لابدّ علينا أن
نتوسّل بجنابه ليتفضّل ربّنا علينا، وهذا ما دلّ عليه حديث : ( من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرا) ولم يقل صلّى الله عليّ بها !، وكأنّ
الفائدة من صلاتنا عليهe، هي أن يصلّي الله علينا فقط.
· الفص الحادي عشر: لماذا لم تذكر الآية صلاة الأنبياء عليه ؟
27.
لأنّ الصّلاة مستمرّة بصيغة المضارع، وعامة النّاس لا يعتقدون أنّ
ساداتنا الأنبياء عليهم السّلام أحياء قائمون في الحضرة كالملائكة.
28.
أنّ محك الآية هو حول مقان النّبوّة عينها، أن تعظّم وتمجّد وتحمد،
فمن لازال يعتقد في ساداتنا الأنبياء عليهم السّلام، أنّهم بشر مثلنا كيف يأتسي
بهم؟! وتامّل قوله تعالى : ( وقالوا
لوشاء ربّنا لأنزل ملائكة ).
29.
أنّ القرآن جاء مراعيّا لأهل الكتاب المتربّصين به، فلو ذكر لهم
شأن تعلّق أنبياءهم السّابقين به، لزادهم نفورا وغرورا !
· الفص الثّاني عشر : ما السرّ في صيغة المضارعة " يصلون" ؟
30.
لا شك أنّ الفعل المضارع يفيد الحاضر، أي أنّ إمداد الله تعالى ـ
صلاته ـ حاضر مع حبيبه eفي كلّ زمان ومكان، مصداقا لقوله تعالى : ( ماودعك ربّك وماقلى) فلم
يقل سبحانه صلّى وانقضى، ولاسيصلّي أبدا، بل إنّه e دائم
الإتّصال بالحضرة بشاهد الحديث : ( إنّي أبيت عند ربّي ) .
31.
وإنّ الفعل المضارع يفيد الاستمرار، وهو في حق الله شأن أزليّ منزه
عن القبل والبعد..، فصلاته سبحانه قديمة أزليّة ، وأمّا في حق ساداتنا الملائكة
فهي سرمديّة بلا نهاية.
32.
جاءت الصّلاة بصيغة أزليّة، لتؤكد لنا أقدميّة الحضرة المحمّديّة،
وأنّه e أوّل
مخلوق على الإطلاق، ولتؤكد لنا بصيغة أبديتها ديمومة أنواره السّارية في الوجود،
مادامت الصّلاة عليه .
33.
وفي صيغة المضارع دلالة على حياته الدّائمة e، فإنّ هذا
التّجلي لا يكون على ميّت غافل، بل على حيّ قريب e وهذا معنى
قوله e: (ردّ الله عليّ روحي حتّى أرد عليه السّلام) أي ردّ توجّه روحي من الصّلات الأزليّة المعبر عنها بـ ( اللّهم الرّفيق الأعلى ) إلى الصّلاة الأبديّة المعبر عنها بـ ( وصلّ عليهم إنّ صلواتك سكن لهم) .
34.
وفي المضارعة دلالة على
إستمراريّة التّجليات الواحديّة الأبديّة، المتوقفة على الوساطة المحمّديّة،
والمعبر عنها هنا بصلاة الله عليه، وماهي في الحقيقة إلّا علينا، فأمرنا سبحانه أن
نستنزلها عليه، لتفيض علينا بواسطته .
· الفص الثّالث عشر : ما السرّ الجمع في " يصلون" ؟
35.
لاشكّ أنّ شؤون الله تعالى لايشاركه فيها أحد، ولكن أراد سبحانه أن
يعرفنا بمكانة حبيبه e عنده،
حتّى أنّه تنزّل ليكون من جملة المصلّين عليه، كما قال في ( واشهدوا وأنّا معكم من الشّاهدين) .
36.
جمع سبحانه الملائكة معه في مضمار واحد، ليقول لنا أنّه من صلّى
على حبيبي e، سيدخل
إلى حضرة الجمع بي .
37.
ومن معانيها : إنّ الله يصلّي بملائكته
على حبيبه e، أي يسخرهم لخدمة جنابه الشّريف، فيكون الجمع في الآية للملائكة
لا لله تعالى .
38.
وفي إضافة الملائكة وجمعهم
بالله تعالى، دلالة على أنّه ليست للملائكة صلاة مستقلّة عليه، بل هم مصلّون بالله
سبحانه، إذ أنّ المصلّي الحقيقي هو الله تعالى، ونحن والملائكة في صلاتنا إنّما
نرجع أمرها إلى مولاها .
· الفص الرّابع عشر : ما وجه الدّلالة في إضمار الصّلاة الذّاتيّة؟
39.
أضمر الحق سبحانه صلاته، وأظهر صلاة الملائكة ـ يصلّون ـ وصلاة
المؤمنين ـ صلّوا ـ ، لكون صلاته ذاتيّة
هويّة مطلقة، والمطلق لا تقيده العبارة، بل اكتفى بذكر الصّلاة الصّفاتيّة من
الملائكة، والصّلاة الفعليّة من البشر .
40.
وفي الإضمار إشارة إلى الإجمال الأحدي، وفي صلاة الملائكة
والمومنين تفصيل واحدي لذلك الإجمال، فلمّا أن تحقّق e بالصّلات
الأزليّة الكلّيّة، أراد الحق سبحانه أن يفصّل له ذلك في عالم الفرق، ليتحقّق
بمعاني الحمد المكنون في المحمّديّة، بعد أن حقّقه في الأحمديّة .
41.
وكما ّضمر سبحانه الصّلاة الذّاتيّة، فقد أضمر ضمنها طور القابليّة
الأحمديّة الخاص بها، فكأنّ مدلول الآية " إنّ الله يصلّي على عبده، وملائكته
يصلّون على نبيه، والمومنون يصلّون على رسوله" لأنّ العبوديّة أعلى مقاما من
النّبوّة والرّسالة، لهذا وردت في معرض المدح الأفخم في آية الإسراء ( سبحان الذي
أسرى بعبده)، فالعبوديّة مقابل : الحقيقة المحمّديّة، والنّبوّة مقابل الرّوح
الأعظم، والرّسالة مقابل: الجسد الشّريف.
· الفص الخامس عشر : ما السرّ في حرف " على" ؟
42.
لاجرم أنّ حرف "على" يفيد
الإستعلاء، ولكن هنا لايكون كذلك ، إلّا جانب الحق سبحانه مع الجناب المحمّدي، فهو
تعالى الأوحد الذي يعلو أمره عليه e .
43.
أمّا نحن والملائكة، فهو ـ على ـ منّا للتّعبد بالدّعاء فقط،
فحينما نقول : { اللّهم صلّ على..} فإنّنا
نوكّل هذا التّجلّي المعبر عنه بـ " على " لله
تعالى وحده .
· الفص السّادس عشر : ما السرّ في إضمار القابليّة ؟
44.
أجل إنّ الحق تعالى لم يقل يصلّون على روح أوجسد أوسرّ .. النّبي،
وفي هذا إطلاق لكل الحضرات المحمّديّة، فالصّلاة من الله تعالى بكلّ شؤونه، على
الحضرة المحمّديّة بكلّ حضراتها .
· الفص السّابع عشر : ما السرّ في دلالة النّبوّة " النّبي" ؟
45.
دلالة على أنّ الصّلاة قديمة قدم نبوته e على هذه
الأكوان، حيث يقول : ( كنت نبيّا وآدم بين
الرّوح والجسد) وهي باقيّة بقاء نبوته
السّاريّة في الإمكان .
46.
لافنك أنّ النّبوّة هي السّرّ الذي بينه e وبين ربّه
تعالى، والرّسالة هي النذور النّور الذي بينه e وبين
الخلق، فكأنّه سبحانه يقول : أنّ الصّلاة عليه هي من الشّأن الخاص الذي لا يدرك .
47.
لمّا كان مقام النّبوة يتعامل مع الخواص، ومقام الرّسالة يتعامل مع
العوام، أشار لنا سبحانه بأنّ الصّلاة عليه هي من شأن الخواص، الذين يتعاملون مع
النّبوّة.
48.
فيها إشارة إلى التّعظيم والرّفعة، لأنّ النّبوّة مشتقّة كذلك من
العلو والسّمو، فلمّا كانت الآية في معرض تعظيم وتنزيه، ناسبت ذكر النّبوّة .
49.
لو قال تعالى: "يصلون على الرّسول" لظنّ البعض أنّ
الصّلاة لازمة للرّسالة والبعثة، تبدأ معها وتنتهي معها، فأتى بالنّبوّة ليقول لنا
: أنّها صلاة على لازم الكمالe، وأنّها
باقيّة ما بقيّت نبوّته .
50.
لمّا كانت الصّلاة من شعب الحبّ، ناسبت مقام النّبوّة، ولو كان
الأمر بالإتّباع مثلا، لناسب مقام الرّسالة، كما قال تعالى: ( من يطع الرّسول فقد أطاع الله) .
· الفص الثامن عشر : ما دلالة الألف واللاّم في ( النّبي ) ؟
51.
واللاّم في " النّبي " هي للعهد
الذّهني، أي النّبيe الحقيقي الكلّي الأصلي، الذي تعرفونه كلّكم بحكم الفطرة الأولى،
والميثاق المعهود .
52.
أوقل اللاّم هنا للعهد الحضوري أي: النّبيe الحاضر بينكم قديما وحديثا، وهذا يتناسب مع مقام النّبوّة التي من
شأنها الديمومة، والسّريان في الأكوان بالإمداد .
· الفص التّاسع عشر : ما الدّلالة في أداة النّداء (يا) ؟
53.
إنّ سياق الخطاب المشتمل على جمع الأملاك
ووصلهم بالله تعالى، مع نداء المؤمنين بأداة النّداء البعيدة، يوحي بأنّهم منفصلون
عن ربّهم، ويريد الله سبحانه أن يدلّهم على ما يصلهم به، وهي الصّلاة على الحبيبe .
· الفص العشرون : ما الدّلالة في الإسم الموصول ( الذين ) ؟
54.
دلالة الإسم الموصول في
التّخصيص، أي يا أخص المؤمنين، وهذا أوكد من أن يقول يا أيه المومنون، ولهذا قال (
آمنوا صلوا) أي إن أردتم أن تزيدوا في الإيمان، فتكونوا من أهل الإحسان
والعرفان فصلّوا عليه.
· الفص الواحد والعشرون : ما السّرّ في
وصفهم بالإيمان في ( آمنوا ) ؟
55.
في ذكر المؤمنين تخصيص عمّن
دونهم من المسلمين، فلا يصلّي عليه إلّا من ارتقى إلى مقام الإيمان، وهذا من قبيل
قوله تعالى : ( قالت الأعراب آمنا قل لم تومنوا ولكن قولوا أسلمنا) لأنّ مقام الإسلام عام،
وهو دون مقام الإيمان الخاص، والصّلاة ترقّيك إلى مقام الإحسان الأخص .
56.
وانظر كيف وصفهم بالإيمان
ثمّ أمرهم بإحدى شروطه، فمن لا زال لم يصلّي كيف يوصف بالإيمان ؟
57.
كأنّ الآية تقول : يا أيها
الذين آمنوا زيدوا في إيمانكم، من قبيل قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا) أي زيدوا في الإيمان،
وذلك بحسب التّدريج في السّلوك، فالدّين إسلام فإيمان فإحسان .
58.
أو تكون دلالة الإيمان هنا
راجعة على أقرب غيب، وهو الإيمان بصلاة الله وملائكته عليه e، فيا من آمن بأنّ الله يعظّم ويمجّد ويثني
على حبيبه e، صلّ عليه بدافع التّقديس، ومنطلق الإيمان
بكمالاته المحمّديّة .
· الفص الثّاني والعشرون : ما دلالة صيغة
الماضي في ( آمنوا ) ؟
59.
كأنّ المخاطب بقوله ( آمنوا ) هم الوجود بكلّه، علوه
وسفله، بمقتضى الفطرة الواحديّة، السّاريّة من أنوار النّبوّة الأحمديّة، المعبر
عنها بـ ( كنت نبيا وآدم بين الرّوح والجسد)، وذلك حينما آمن به كلّ
شيء قديما، بشاهد ( وإن من شيء إلّا يسبح بحمده)، ويوم القيامة سنسأل عنها
( شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين) .
· الفص الثّالث والعشرون : ما الدلالة في فعل الأمر " صلّوا " ؟
60.
صرّح
بفعل الأمر ليلا يبقى شك ولا تأويل في وجوب الصّلاة عليه e، ولكنّها مع هذا
وقد لاقت تأويلا وتمييعا .
61.
وللأمر هنا دلالة على
ولايتها لنا، وسيّادته عليناe، حيث أوجب علينا الحق سبحانه أن نصلي عليه،
توكيدا على حق النّبوّة علينا .
62.
وقد عبر هنا بالفعل الذي
يفيد الحركة والإنفعال، ولم يعبر عنه بالإسم الذي يفيد الجمود، ليعلمنا أنّ سرّ
الصّلاة فعّال في المؤمنين، وهو مناسب للإيمان الذي يزيد وينقص، فهي معراج
للسّالكين، ورفرف للواصلين .
· الفص الرّابع والعشرون : ما السرّ في إضمار إسمه في " عليه" ؟
63.
أضمر سبحانه إسمه e في صلاة
المؤمنين ولم يحدد أيّ حضرة، ليصلّي كلّ منّا بما يناسبه، فمنّا من يصلّي على
الحبيبe، ومن يصلّي على النّبيe، ومن
يصلّي على الرّسولe .
64.
لم يقل في حقنا نحن " صلّوا على النّبي " لأنّ مقام
الصّلاة على النّبوّة خاص بالمقرّبين، والآية تشريع عام .
· الفص الخامس والعشرون : ما السرّ في
الصّلاة على الغائب في " عليه" ؟
65.
لمّا كان e في الملإ
الأعلى بنبوته، والصلاة على مقام "النّبوّة" كانت ولازالت قائمة في
الحضرة، أمرنا سبحانه أن نصلّي عليه نحن من مقام "الرّسالة" فيكون
الضمير الغائب مشيرا إلى العهد، أي صلوا على الرّسول الذي تعرفونه .
66.
وردت الصّلاة في حق الله تعالى وملائكته بصيغة الحاضر، وفي حقنا بصيغة
الغائب، لأنّهe لا
يغيب عن تلك الحضرة، أمّا نحن فالغالب علينا الغيبة عنه، ولهذا ورد السّلام في
جانبنا " وسلّموا"، ولم يرد في جانب الحضرة، لأنّ السّلام على من غاب
ثمّ آب .
67.
لمّا كنّا نتعامل مع حضرة الرّسالة، وكانت حضرة
النّبوّة غيب عنّا، جاءت الصّلاة بصيغة الغائب .
68.
ومن دلائل الإضمار عند
البلاغيين، أنّه يفيد التّفخيم والتّبجيل، وهو ما يتناسب مع وصف النّبوّة التي رجع
الضّمير إليها .
· الفص السّادس والعشرون : ما سرّ الفرق
بين الصلاة والسّلام بـ ( عليه)؟
69.
ومن دلائل الفرق بين الأمر
بالصّلاة والسّلام بعليه، أنّهما مفترقين في الماهيّة، وفي الكيفيّة، وفي الأجر.
70.
وفي ذلك إشارة إلى أنّ
الصّلاة عليه e تتعدّى بـ (عليه) ، فنقول : " اللّهم
صل على" ولكنّ السّلام ليس من جنس ما يتعدّى بعلى، بل هو تسليم له .
71.
لم يقل في جانب المؤمنين
صلوا على النبيء، تنزيها لمقام النّبوّة عن أن يستعلى عليها فعل، فأضافها إلى
الضمير وذلك أخف، ولكن لما كان ذلك في الملائكة؟
أقول لأنّهم أضيفوا إلى فعل
الله تعالى، فهم فانون عن إراداتهم باقون بالإرادة الإلهيّة، فالله هو المصلّي
حقيقة، أمّا نحن فلا زلنا بأنفسنا، فلهذا لم يرضى أن يعلو فعلنا على مقام
النّبوّة، حتّى ولو بمجرد الحرف " على" .
· الفص السّابع والعشرون : ماهيّة السّلام
في قوله " وسلّموا"؟
72.
قد يكون السّلام عليهe بمعنى التّحيّة له، وهو ما يؤكده حديث
الصّلاة الإبراهيميّة، حينما قال بعدها : ( والسّلام كما علمتم) وهو صيغة السّلام الإلهي
على حبيبه ليلة المعراج: " السّلام عليك أيها النّبي ورحمة الله وبركاته" .
73.
والتّحيّة بالسّلام معناها،
أنّك تقول لمن تسلّم عليه، أنّني أعطيتك الأمان والسّلام منّي، وهذا في جانب
النّبوّة أوكد، بأن نسلّمه e من أنفسنا ظاهرا وباطنا.
74.
ويكون بمعنى التّسليم له e في أوامره وفي كمالاته، وإنّ المتبصّر بسياق
الآية وسباقها ولحاقها، سيرى بأنّها تهدي إلى تعزير وتنزيه الجناب الأعظم، وهذا ما
يتناسب مع ورود السّلام هنا، ونظيرها قوله تعالى : ( فلا وربّك لايؤمنون حتّى يحكموك
فيما شجر بينهم ويسلّموا تسليما ) .
· الفص الثّامن والعشرون : ما سرّ
التّوكيد في قوله " تسليما"؟
75.
لمّا علم سبحانه طبيعة
النّفوس البشريّة وما فيها من الشّرود، أكّد عليها التّسليم لأمرهe ، ولم يأمر الملائكة بذلك ولم يؤكد عليهم .
76.
لمّا كانت تغلب علينا
الغفلة عن باب الحضورe، أكّد علينا سبحانه السّلام كتحيّة للإتّصال
به، فكثرة الغفلة تقتضي كثرة السّلام.
· الفص التّاسع والعشرون : لماذا لم يذكر
السّلام في جانب الله وملائكته ؟
77.
لم يذكر سبحانه السّلام في
جانب الله وملائكته، بل قال : ( يصلّون على النبيء) فقط، لأنّ السّلام يكون على من
غاب ثمّ آب، وهوe دائم الحضور مع الله تعالى وملائكته .
78.
وأمّا إن كان السّلام بمعنى
التّسليم لأوامره e، فإنّ حضرة الملائكته لمّا كانوا مجبولين
على الإيمان والتّسليم، فلا يحتاجون إلى أمر ولا إلى توكيد .
79.
لمّا كان السّلام هو
التّسليم لهe فيما أمره الله تعالى بتبليغه، لم يتناسب
هذا مع ذكر السّلام، فكيف يسلّم الرّبّ سبحانه لما أمر به ؟!
· الفص الثّلاثون: ما الدّلالة في تقديم الصّلاة على السّلام ؟
80.
وفي تقدّم حكم الصّلاة هنا على حكم السّلام، دلالة على أفضلية
الصّلاة على السّلام، ظاهرا وباطنا، لهذا لم يأتي السّلام في جانب الحضرة الإلهية
والملكيّة .
81.
وفي تقدم الصّلاة هنا ، مع تأخرها عن السّلام نزولا، لقولهe : ( والسّلام كما علمتم) يدلّ
على ما في الصّلاة من سرّ عظيم، حتّى أنّ الشرع رفق بنا وبدأ بالسّلام في التّكليف
.
· الفص الواحد والثّلاثون: ما السّر في
مجيء الآية ( جملة إسميّة) ؟
82.
مجيء الجملة إسميّة ، ذلك لتقويّة الخبر ، وفي تقوية الخبر توكيد
لأمر الوجوب بالصّلاة .
· الفص الثاني والثّلاثون : ما السّر في
تقديم الأسلوب الخبري على الإنشائي ؟
83.
وفي تقديم الأسلوب الخبري ـ الذي في مقدّمة الآية ـ على الأسلوب
الإنشائي الأمري ـ الذي ختمت به الآية ـ نوع من الإستئناس بالأمر، لأنّ النّفوس
تنفر من المبادهة بالأمر، فبادرها الحق سبحانه بالخبر إستئناسا، ولاغرو فإنّ
الصّلاة بكلّها رحمة، في أمرها وفي ثمرتها .
· الفص الثّالث والثّلاثون : ما سرّ دلالة
السياق في الآية الكريمة؟
84.
إنّ المتأمّل في سياق الآية
الكريمة، يرى بأنّه كان يؤسّس لمعنى الأدب والتّعظيم والتّنزيه لجناب النّبوّة، بل
السّورة بكلّها تدندن حول التّعلّق بالحبيب e .
85.
وعليه فإنّ معنى الصّلاة
تكون له مناسبة مع هذا السّياق، ومن هنا قلنا بأنّ الصّلاة معناها العام هو
التّعلّق بكلّ مقاماته الإثني عشر: " الحب، والإيمان، والتّوقير،
والصّلاة، والإتّباع، والمعرفة، والنّصرة، والشكر، والنصيحة له، والزيارة،
والتّوسل، والولاء لأهل بيته وأصحابه".
· الفص الرّابع والثّلاثون : ما سرّ دلالة
اللّحاق في الآية الكريمة؟
86.
وهناك دلالة قويّة، وصلة
وطيدة بين آية الصّلاة والآية التي تليها مباشرة، في قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي
الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) فالذين لايصلّون عليه e، هم الذين يؤذون الله ورسوله e.
· الفص الخامس والثّلاثون: ما دلالة تأخر
نزول آية الصّلاة على السّلام ؟
87.
ولقد تأخّر نزول آية الصّلاة إلى العهد المدني، وتقدم فرض السّلام
في العهد المكي، منذ سنّ التّشهد في الصّلاة، ولذا قال e: ( والسّلام كما علمتم) .
وفي هذا
دلالة على التّدرج في الأحكام بحسب القوابل، كما تدرج إظهار الإسراء والمعراج،
وماذلك إلّا لعظم شأن الصّلاة وغور كنهها، حتّى لمّا استعلموه عن كيفيّة الصّلاة
قال e: (إنّ هذا من العلم المكنون، ولولا أنّكم سألتموني عنه ما أخبرتكم به) .
88.
ولأنّ الصّلاة شأنها خطير، لم تفرض في العهد المكي، الذي يسوده
الكفر والعناد، فأخرت إلى العهد المكي الذي يسوده التوقير والتّسليم، ولهذا قال
سبحانه بعدها ( وسلّموا تسليما) أي إنّ الملائكة من قديم تصلّي، أمّا أنتم فقد
تأخر أمركم بهذا، لعدم تأهلكم لقبولها..
· الفص السّادس والثّلاثون: ما دلالة
الإجمال في الآية ؟
89.
ونرى أنّ في الآية إجمالا يفضي إلى إبهام، حيث لم تفصّل في معنى
الصّلاة الإلهيّة، ولاكيف صلّت الملائكة، ولا كيف يصلّي المؤمنون، في الحين الذي
يفصّل فيه القرآن في قصّة نّملة أو بقرة ..
وهذا
إنّما يدلّ على عزّة معناها وإطلاق غايتها، كما فعل ذلك في سورة الإخلاص، والتي
تعرّف بأعلى حقيقة وهي الذّات الأقدس، ولكنّه أجمل فيها سبحانه، مصداقا لقوله : ( قل الرّوح من أمر ربّي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) .
· الفص السّابع والثّلاثون: ما السّر في
نزول الآية في شهر شعبان ؟
90.
ولقد ورد أنّ آية الصّلاة نزلت في شهر شعبان، وهذا يتناسب مع ما
لهذا الشهر من صلة بالحبيب حيث يقولe : ( رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمّتي) .
· الفص الثّامن والثّلاثون: دلالة السّباق
( إنّ الله كان على كلّ شيء شهيدا)؟
91.
والمتأمّل يرى بأنّ الآية أتت مؤكّدة بعد توكيد، ومابين الجملتين
حرف عطف، (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ) وكأنّ الآية الجملة الثّانية توكيد للأولى، أوبيانا لها، وهوما يسمى
عند البلاغيين " كمال الإتّصال" والدّلالة في ذلك هي ربط الآيتين بسياق
واحد، وهو تعظيم وتنزيه الجناب الطّاهر .
92.
ورد إسم الشّهيد في الآية السّابقة ـ على كلّ شيء شهيد ـ وهو
مناسب لمضارعة فعل ـ يصلون ـ الدّال على الحضور الحالي والمستقبل .
93.
في ورود الصّلاة الذّاتيّة بعد إسم الشّهيد، دلالة على تحققه e باسم
الشّهيد، لكون التّجليات الذّاتية مهيمنة على حضرة الأسماء، وهذا ماتؤكده الآية
التي من نفس السّورة (إِنَّآ
أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) والعلّة في
هذا أن يأخذ المنافقون حذرهم من خداعهم لهe ، لأنّه مكاشف لهم .
· الفص التّاسع والثّلاثون: أسباب نزول
الآية ؟
94.
لاريب أنّ السّورة بكلّها مدنيّة، وأنّها تؤسّس لمبادئ التّعلّق
بالحبيب e، فهي
تربّي مجتمع الصّحابة عن قرب، لأنّها تمس الجانب الإجتماعي في الحياة النّبويّة.
وعليه
فإنّ الآية لا تخرج عن نطاق التّعلّق بالجناب الكريم، ومن هنا فهم العارفون أنّ
معنى الصّلاة والسّلام هو حبّ وأدب وتقديس وتنزيه ..
95.
وإنّ الآية تخاطب الأمّة برمتها، لأنّ "العبرة بعموم اللّفظ
لا بخصوص السّبب"، ولو أنّ السياق يحدد المعنى الظاهر للآيات، إلّا أنّ باطن
الآية عميق الدّلالة .
· الفص الأربعون: أحوال نزول الآية ؟
96.
من المعلوم أنّ لكلّ آية سبب النّزول ظاهرا، وحال النّزول باطنا،
أي حال صاحب الوحيe، ومن
أحوال النّزول قاعدة الأحرف السّبعة عند مولانا الدّباغ قدس سرّه، وهي "
النّبوة والرّسالة والرّوح والآدميّة والقبض والبسط والعلم".
والحرف
الذي تدور حوله هذه الآية، هو حرف النّبوّة، لكون الآية تخوض في أمور باطنة،
وتخاطب مقاما خاصا، بل إنّ ذكر النّبوّة في الآية ظاهر.
97.
ومن أحوال النّزول أنّ القرآن يدور بين التّجليات الثّلاث: "
الجمال والجلال والكمال" والمتبصّر في الآية يراها بأنّها أخذت طابعا كماليا،
حيث أنّها تخوض في الصّلة العينيّة، وفي تعظيم وتقديس الجناب الشّريف.
· الفص الواحد والأربعون: دلالة النّظير
في آية ( هو الذي يصلّي عليكم) ؟
98.
نرى بأنه سبحانه في آية : (
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي
عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) جَعَلَ
الصَّلَاةَ منه تعالى، وعطف الملائكة عليه سبحانه، وأمّا هنا فقد جَمَعَ نَفْسَهُ
وَمَلَائِكَتَهُ وَأَسْنَدَ الصَّلَاةَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: يُصَلُّونَ وَفِيهِ من
التَّعْظِيم للجناب الشّريف الغاية، لأنّ هناك فرق بين قَولك دخل فُلَانٌ
وَفُلَانٌ، فهذا يُفْهَمُ مِنْهُ تَقْدِيمٌ، وقولك فُلَانٌ وَفُلَانٌ يَدْخُلَانِ،
إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الصّلاة عليه هي الْأَصْل، والصّلاة على المؤمنين فرع عنها.
99.
وَفِي الصَّلَاةِ عَلَى المؤمنين اللَّهُ تعالى يصلّي، والملائكة يوافقونه، أمّا فِي الصَّلَاةِ
عَلَيه e يُصَلُّونَ بِالْإِضَافَةِ، لأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ
سَوَاءٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُصَلِّ، وَفِي الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ
كَذَلِكَ.
100. في الصّلاة على الحضرة النّبويّة
لم يذكر السّلام، وذكره في حضرة المومنين ( تحيّتهم يوم يلقونه سلام) لأنّه غير غائب عن الحضرة ولا جديد عنها، حتّى يحتاج إلى تحيّة
السّلام، وأمّا المومنون فكانوا محجوبين ودخلوها .
· الفص الثّاني والاربعون: دلالة النّظير
في آية ( شهد الله أنّه لا إله إلّا هو) ؟
101. إنّ المتأمّل في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ
وَأُولُو الْعِلْمِ} يرى أنّ هناك
فصل مابين شهادته وشهادة ملائكته، أمّا في آية الصّلاة فقد جمعهم سبحانه في نسق
واحد، بل في ضمير واحد، وأضافهم إليه بالضّمير المتّصل، ولا شكّ أنّ هذا أبلغ من
إضافتهم في آية الصّلاة، ولكن ما وجه الدّلة في هذا؟
· الفص الثالث والأربعون : دلالة النّظير
في آية " التّعزير والتّوقير"؟
102. وهناك رابط قوي بين آية هذه
الآية وآية الفتح (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً
وَأَصِيلًا) فقوله (لتؤمنوا ..) متناسبا مع
قوله ( الذين آمنوا) وقوله: ( وتعزّروه وتوقروه) مطابقا لقوله: ( صلوا عليه) وقوله: ( وتسبحوه بكرة وأصيلا)
موافقا لقوله: ( وسلّموا تسليما) وإنّ ضمير التسبيح هنا يجوز أن يعود على حضرته e، لأنّه
آخر مذكور، وهذا لايخالف العقيدة، لأنّ التسبيح هو التّنزيه لجناب المعصومe، ولكلّ
مقام تنزيهه وتسبيحه وحمده .
103.
الفص الرّابع والأربعون : دلالة النّظير
في آية " النّبي أولى بالمومنين"؟
104. ولآية الّصلاة رابطة وطيدة
بأختها في السّورة : ( النبي أولى
بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمّهاتهم) من جهة ذكر النّبوّة في الآيتين، وذكر لقب المومنين فيهما، وذكر
الزّوجات الطّاهرات هنا، يتناسب مع سياق آية الصّلاة، والذي جاء في معرض التّنزيه
لمقام الزّوجيّة النبويّة .
· الفص الخامس والأربعون : دلالة النّظير
في آية " الصّلاة على أهل البيت"؟
105. وبين آية الصّلاة وآية ( رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنّه حميد مجيد) مناسبة دقيقة، ولهذا اقتبس منها eفي الصّلاة الإبرهيميّة " إنّك حميد مجيد"
إلّا
أنّ هذه الرّحمة والبركة على أهل البيت، إنّما هي فرع عن الصّلاة النّبويّة
الذّاتيّة، وما شبههما في الصّلاة الإبراهيميّة، إلّا تنزّلا منه e.
· الفص السّادس والأربعون : دلالة النّظير
في آية " الصّدق"؟
106. ولها أيضا تناسبا مع جارتها في
السّورة (قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِ إِيمَانًا
وَتَسْلِيمًا ) من جهة الإيمان المذكور في الجهتين، وجهة ختم الآيتين بالتّسليم،
فترى بأنّ الإيمان والتّسليم في الآية الصّدق، يطابق الصّلاة والسّلام في آية
الصّلاة.
وكذلك
لحاق آية الصّدق يضيف لها معنى فالذين قال فيهم تعالى : ( من المومنين رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه) هم الذين خاطبهم بـ ( ياأيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلموا تسليما) .
· الفص السّابع والأربعون : دلالة النّظير
في حديث " الصّلاة الإبراهيميّة "؟
107. وإن أردنا أن نفسّر الآية
بنظيرها من الحديث، فنرى بأنّ هناك رابط بين الآية وحديث " الصّلاة
الإبراهيميّة ".
-
حيث أنه e أتى بـ
" اللّهم" والتي تطابق لفظ الجلالة ـ إنّ الله ـ في الآية،
وذلك أنّ الصّلاة ذاتيّة .
-
وقال لهم e قولوا
" اللّهم صلّ " لأنّ الله تعالى هو المصلّي الوحيد حقيقة عليه.
-
ولم يقرنe السّلام
بالصّلاة، كما فصلت بينهما الآية، وهذا فيه دلالة على أنّ السّلام ليس من جنس
الدّعاء.
-
وختمها بـ " إنّك حميد مجيد " إقتباسا من آية ( رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنّه حميد مجيد) لنعلم أنّ الصّلاة
والسّلام هما حمد وتمجيد للجناب النّبوي الشّريف .
· الفص الثّامن والأربعون : دلالة النّظير
في آية " التّسليم"؟
108. ولهذه الآية تناسب وفيق مع آية (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) من جهة الإيمان الوارد في الآيتين هناك ( لايؤمنون) وهنا ( الذين آمنوا) ومن جهة
التّسليم المختتم به فهناك ( ويسلموا
تسليما) وهنا: ( وسلّموا تسليما) .
ومن هنا
ذهب جمهور من العلماء والعارفين، إلى أنّ معنى التّلسيم في الآيتين متطابق، وهو
تسليم بلسان الحال، لا بلسان القال .
· الفص التّاسع والأربعون : دلالة النّظير
في آية " التّطهير" ؟
109. وممّا لاشك فيه أنّ جمع آية
التّطهير ( إنّا يريد الله ليذهب عنكم
الرّجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) مع
آية الصّلاة في سورة واحدة ليس عبثا، وكلاهما يدور حول سياق التّنزيه والتّقديس،
بل بينهما تشابه حتّى في الأسلوب، لاسيما في الإبتداء بالتّوكيد، والختم بالمفعول
الطلق " تطهيرا" و " تسليما" والمعنى واحد.
ولم
يذكر سبحانه في آية التّطهير، أيّ أمر بالموالاة لأهل البيت، خلافا لآية الصّلاة،
لأنّ مقام النّبوّة متّفق عليه، أمّا مقام أهل البيت فمختلف عليه .
الفص الخمسون : دلالة مطلع
السّورة ؟
110. وإنّ المتوقف مع مطلع السّورة
وما فيها من ظاهر العتاب، الذي هو من قبيل المتشابهات النّبويّة، ( يأيها النّبي اتّق الله ولا تطع الكافرين
والمنافقين ) بل وفي السّورة كلّها،
وذلك من ضرب " إيّاك أعني واسمعي ياجارة".
سيعلم
أنّ آية الصّلاة جاءت في معرض التنزيه لمقام النّبوّة، عمّا يختلج اعتقادنا في
الجناب الشّريف، ولهذا أكّدها بقوله ( وسلّموا تسليما) .
· الفص الواحد والخمسون : ما وجه
الدّلالة في تقديم الإيمان على الإسلام؟
111. ونرى بأنّ الآية هنا قدّمت
الإيمان على السّلام، مثل أختها ( ومازادهم إلّا إيمانا وتسليما) مع أنّ التسليم مقدّمة للإيمان، فالآية الأخرى تقول ( قالت الأعراب آمنا قل لم تومنوا ولكن قولوا أسلمنا) .
ولعلّى
هذا التّسليم المذكور هو تسليم الخواص، الذي يأتي بعد الإيمان، لكونه متعلّقا
بالجناب النّبوي، لأنّ التّسليم تسليمان: تسليم ظاهر بالإنقياد للتّكاليف، وتسليم
باطن بالفناء عن الأنانيّة ، والبقاء بالإرادة النّبويّة .
· الفص الثاني والخمسون : دلالة مقطع
السّورة؟
112. وفي ختم السّورة بآية ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا تَكُونُوا كَالَّذِينَ ءَاذَوْا
مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا) صلة بآية الصّلاة، من حيث كونهما يخاطبان المومنين، ويتعاطيان
موضوع التّنزية للجناب النّبوي .
وتوجيه
الآية : يأيها الذين آمنوا ـ لاتكونوا مع نبيّكم ـ كالذين آذوا موسى، بل صلّوا
عليه وسلّموا تسليما.
113. وختمها كذلك بآية الأمانة { إِنَّا عَرَضْنَا الامَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَالْجِبَالِ
فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الانسَانُ إِنَّهُ
كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) دلالة خفيّة
.
وذلك
أنّ السّورة كلّها تؤسّس للتعلّق بالجناب الشّريف، فلا بدّ أن يكون لمطلعها
ومقطعها توافق مع موضوعها، فكأن آية الأمانة توكيد على عهد الميثاق النبوي الأول.
ومن قال
أنّ الأمانة هي توحيد الله تعالى، نقول له
كذلك الملائكة والجن والجمادات موحدة، ولكن هذا شيء خاص بالإنسان، وما هو إلّا
الرّقيقة المحمّديّة المكنونة في سريرته، ففرض ـ الصّلاة والسّلام ـ إذا يكون
كوفاء بحقّ هذه الأمانة .
خاتمة
وما هذه إلا إشارات بسيطة ممّا تحمله آية " الصّلاة
والسّلام" وأمّا السّرّ المطلسم الذي تدور حوله الآية، فلا زال مكنّزا في
أصداف النّون، من وراء القلم ما يسطرون.
فدونك أيها المريد لا تقف مع قوالب الآيات فتحجب قلوبها، وصفّي عين
بصيرتك لتشهد مكنون القرآن، فإنّه لا يمسه إلّا المطهرون، وإلّا فجالس أهل الورود
على المعين ، "فإن لم يصبها وابل فطل " .
هذا والله ورسولهe أعلم
وصلّى الله على سيّدنا مولانا الأحمد المحمّد وعلى آله وصحبه وسلّم .
سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون
وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين