بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيّدنا ومولانا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم
ورضي اللّه عن شيخنا الجّيلاني وعن أتباعه وورثته إلى
يوم الدّين
هلّ شهر الصيام بالأنوار
|
لامعا من مطالع المختار
|
هلّ فينا بنفحة الفرقان
|
مستمدّا من قارئ الأسرار
|
هلّ بالرّحموت والإحسان
|
مستدرّا من مركز الأدوار
|
هلّ بالقدر ليلة كسنين
|
فيضان البحار لا الأنهار
|
لحظة تعفو عنك وزر الدّهور
|
وما أدراك ما وراء السّتار
|
فهلمّوا يا أمّة اللّاهوت
|
هذا شهر الثمار والإزدهار
|
ولا تصغوا لزجرة الطّاغوت
|
ويكم إنّ الأسرار للأبرار
|
فامزجوا الصّوم بالصّلاة عليه
|
واشهدوا لطفه طوال النّهار
|
من لنا لولا الباب هذا بهذا
|
ما لنا ميزة على الكفار
|
لك يا ربّي الحمد والشّكران
|
ما تجلّى الحبيب بالأنوار
|
أمّا بعد :
فإنّ لكل أمر سرّ، ولكلّ صورة حقيقة، ولكلّ شهادة غيب، ولكلّ ظاهر
باطن، ولكلّ قالب قلب، ولكلّ مبنى معنى، وإنّ لهذا الدّين القويم روح بها ينبض أبدا،
ألا وهو نور النّبوّة السّاري في الإسلام والإيمان والإحسان، ولو نفذ هذا
السّلسبيل لحظة لعاد الإسلام عين الكفر، والعياذ بالله تعالى .
ولهذا لايكفي العبد أن ينطق بـ " لا إله إلّا الله " بل
لا بدّ أن يردفها بشهادة " سيّدنا محمّد رسول الله" كما لم يكفي اليهود
والنّصارى ذلك .
وإنّ معرفة نواميس هذه النّبوّة السّاريّة، علم دقيق قائم بذاته،
وسنعرّج هنا على عيّنة منه، فيما يخص نفحة رمضان المبارك، فما هو سرّ تخصيص هذا
الشّهر بتلك النّفحات الجزيلة ياترى ؟
النّفحات الرّبّانيّة
ممّا لاشك فيه أنّ هناك هبات ربّانيّة زائدة على المعتاد، مصداقا
لقول المعصوم e ( إنّ لربّكم في أيّام دهركم نفحات، ألا فتعرّضوا لها ) [1]
وإنّ هذه النّفحات تنقسم إلى أربعة أنواع على حسب محلّها :
1)
نفحات زمانيّة : مثل المولد الشّريف، ورمضان المبارك، ويوم الجمعة،
ويوم الإثنين، وكلّ المناسبات الدّينيّة..
2)
نفحات مكانيّة: تحلّ في مثل الرّوضة الشّريفة، والكعبة الكريمة،
ورحاب المساجد، وأضرحة الصّالحين.
3)
نفحات قربات: تتجلّى من العبادات، مثل الصّلاة، والصيام، والحج،
والزيارة، وقراءة القرآن الكريم .
4)
نفحات مقرّبين: ما تتجلى بمجالسة أهل الله تعالى، أو التّبرك بهم،
من أنبياء وصحابة وعلماء وأولياء وأشراف ..
وإنّ من الضّروري عند القوم، أنّهe هو
الواسطة العظمى في هذه النّفحات الرّبّانيّة، مصداقا لقوله e: { إنّما الله المعطي وأنا القاسم} بل إنّ في هذا الحديث نفسه إشارة في خروجه من عموم الخطاب ( لربّكم ) و( دهركم ) و( تعرضوا) وكأنّه يقول
وأنا باب تلك النّفحات، وأشار بالتّنبيه على نفسه ( ألا فتعرضوا) لأنّه هو
مجال التّعرض لها، كما قلنا في صلاة النّفحات " اللّهم صلّ على سيّدنا محمّد أصل كلّ النّفحات الرّبانيّة، وقطب
إفاضتها على الدّوائر الكونيّة، فأعرضهم لها من بابه أخضعهم بأعتاب جنابه، وعلى
آله وصحبه وسلّم "
خيريّة الأمّة
المحمّديّة
ألا
وإنّ خيريّة الأمّة المحمّديّة، فرع عن خيريّة نبيّها الأكرمe، فما فضل
رمضان ولا القرآن ولا ليلة القدر ..إلّا به e، ولا غرو
فإنّ كتابه أفضل الكتب، وملّته أفضل الملل، وقرنه خير القرون، وأعتابه أفضل
البقاع، ومولده أفضل الأيام..
فمنه
كانت أمّته أفضل الأمم، كما قال سبحانه ( كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون
بالله) والخيريّة هنا ليست موقوفة
بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، بل هي مزيّة قديمة بدلالة ( كنتم) لأنّها عناية
سابقة لأجل نبيّها الأعظم e ولله
درّ البردة إذ تقول :
بشرى
لنا معشر الإسلام إنّ لنا
|
من العناية ركنا غير منهدم
|
لمّا
دعى الله داعينا لطاعته
|
بأكرم الرّسل كنّا أكرم الأمم
|
التّيسير والتّكثير
ومن مظاهر النّفحات على هذه الأمّة المحمّديّة، أنّ الله تعالى
يسّر عليها العمل وكثّر لها الأجر، كما قال تعالى في آية رمضان :(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، وماذلك إلّا ببركة وعناية نبيّها الحبيب e، ولهذا
تراه كثيرا مايقول e ( لولا أن أشق على أمّتي لـ ..) وكذلك في تخفيف الصّلاة من خمسين إلى خمسة، ثمّ بقيت خمسين في
الأجر وخمسة في العمل، وليلة القدر خير شاهد على هذا، كما جاء عَنْ مُجَاهِدٍ،
قَالَ: «بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ فِي
بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ لَبِسَ السِّلَاحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَلْفَ شَهْرٍ
فَلَمْ يَضَعْهُ عَنْهُ فَذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ e لِأَصْحَابِهِ
فَعَجِبُوا مِنْ قُوَّتِهِ»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} يَقُولُ اللَّهُ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ تِلْكَ
الْأَلْفِ شَهْرٍ الَّتِي لَبِسَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فِيهَا السِّلَاحَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَلَمْ يَضَعْهُ عَنْهُ "[2]
ولأجل هذا غبط سيّدنا موسىu هذه
الأمّة كما جاء عن قتادةt قوله : « لَمَّا {أَخَذَ مُوسَى الْأَلْوَاحَ} , قَالَ: «أَيْ رَبِّ إِنِّي
أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ , عَنِ الْمُنْكَرِ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي» , قَالَ:
«تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَe» , قَالَ:
«أَيْ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً هُمُ الْآخِرُونَ ,
وَالسَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي» , قَالَ: «تِلْكَ
أُمَّةُ أَحْمَدَe» , قَالَ:
«أَيْ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً أَنَاجِيلُهُمْ قُلُوبُهُمْ ,
وَكَانُوا يَقْرَءُونَ نَظَرًا فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي» , قَالَ: «تِلْكَ أُمَّةُ
أَحْمَدَe» , قَالَ:
«أَيْ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً يَأْخُذُونَ صَدَقَاتِهِمْ
يَأْكُلُونَهَا فِي بُطُونِهِمْ , وَيُؤجَرُونَ عَلَيْهَا فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي»
, قَالَ: «تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَe» قَالَ
قَتَادَةُ: " وَكَانُوا مَنْ قَبْلَهَا يُقَرِّبُونَ صَدَقَاتِهِمْ , فَإِنْ
تُقُبِّلَتْ مِنْهُمْ جَاءَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهَا , وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ
مِنْهُمْ تُرِكَتْ حَتَّى جَاءَتِ السِّبَاعُ فَأَكَلَتْهَا , فَقَالَ: «يَا رَبِّ
إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً هُمُ الشَّافِعُونَ الْمَشْفُوعُ لَهُمْ ,
فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي» قَالَ: «تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَe» , قَالَ:
«رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً هُمُ الْمُسْتَجِيبُونَ
الْمُسْتَجَابُ لَهُمْ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي» , قَالَ: «تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَe» , قَالَ:
«يَا رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً يُقَاتِلُونَ أَهْلَ
الضَّلَالَةِ حَتَّى يُقَاتِلُوا الْمَسِيخَ الدَّجَّالَ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي»
, قَالَ: «تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ e» , قَالَ:
«فَأَلْقَى مُوسَى الْأَلْوَاحَ» , قَالَ: «يَا رَبِّي اجْعَلْنِي من أُمَّةِ
أَحْمَدَ e» , قَالَ:
«إِنَّكَ لَنْ تُدْرِكَهُمْ» , قَالَ اللَّهُ: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ
عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ
الشَّاكِرِينَ} قَالَ: «فَرَضِيَ نَبِيُّ اللَّهِ» [3]».
مشكاة الإيمان
ولإن
كان فضل "شهر رمضان" موقوف على الإيمان والإحتساب، لقوله e : « من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه»[4]
فإنّ هذا الإيمان يستمد من مشكاة النّبوّة، إذ أنّ كلّ لمعة إيمان تحلّ في قلب من
قلوب الأمّة، فإنّما هي مقتبسة من الشّعاع المحمّدي، السّاري نوره في كلّ الأوامر
والعبادات، فلولا هذا النّور المبين لكانت العبادات مجرد عادات، كما هو حال أهل
الكتاب اليوم، فاليهود والنّصارى يعبدون الله تعالى ويوحدونه، ولكنّهم كافرون !
لأنّهم ينقصهم نور الإيمان السّاري في شهادة أنّ " سيّدنا محمّد رسول اللهe " .
وهنا
حكاية يحكيها سيدي عبد العزيز الدبّاغ قدّس الله سرّه يقول: لقد وقع لبعض أهل
الخذلان أنّه قال: ليس لي من سيدنا محمد e إلا
الهداية إلى الإيمان، وأما نور إيماني فهو من الله عز وجل لا من النبي e ،
فقال له الصالحون: أرأيت إن قطعنا ما بين نور إيمانك وبين نوره e، وأبقينا
لك الهداية التي ذكرت أترضى بذلك؟ قال: نعم رضيت. فما تم كلامه حتى سجد للصليب
وكفر بالله وبرسوله e ومات على
كفره، نسأل الله السلامة.[5]
إذا فالرّسالة المحمّدية
تمدّنا بالإسلام، والنّبوّة تسقينا بالإيمان والإحسان، ولقد ختمت الرّسالة وكملت
بانتقالهe إلى
الرّفيق الأعلى، ولم تنقضي النّبوّة لأنّها هي القائمة بالإيمان في الوجود، فلو
زال نوره عن قلب لحظة، لارتدّ صاحبه فورا.
وإن شئت
فاقرأ قوله تعالى (يؤمن بالله ويؤمن
للمؤمنين) فهوe يؤمن
بالله فيتزوّد بالأنوار، ليؤمن لنا فيمدنا بالإيمان، ويقول سيدي الدّباغ رضي الله
عنه عن الصّالحين أنّهم : يشاهدون المادة سارية من سيد الوجود e إلى
كل مخلوق في خيوط من نور قابضة في نوره e ممتدة
إلى ذوات الأنبياء والملائكة عليهم السلام وذوات غيرهم من المخلوقات، فيشاهدون
عجائب ذلك الإستمداد وغرائبه.[6]
نور القرآن
وإن كان شهر رمضان تنوّر
بنزول القرآن فيه ( شهر رمضان الذي
أنزل فيه القرآن) فإنّهe هو ساقي
أنوار الفرقان للأمّة، وهو منزّل أسر القرآن بلسانه المبين، إذ لولا وساطته e لما تيسّر
الكتاب لمستوى التّلقي في التّلاوة ولا الذّكر ولا الفهم ولا العمل ولا السّلوك
ولا الفتح به، ويشير إليه قوله تعالى : ( فإنّما يسرناه بلسانك) وهذا
التّيسير في التّلقي بأنواعه كلّها ظاهرة وباطنة.
وكذلك في قوله تعالى : ( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) ولا شكّ أنّه هو النّور هنا وليس القرآن الكريم، لأنّه لايجوز أن
يكون العطف هنا مكرّر، وفي تقديم النّور على الكتاب، دلالة على التّيسير هذا، لأنّ
القرآن صفة لاهوتيّة أزليّة، وبالنّور المحمّدي النّاسوتي تيسّر وتنزّل لنا، وهذا
هو المعنى الحقيقي لنزول القرآن، فهو نزول في مستوى التّجلي والإدراك، لا نزول
مكان من السّماء إلى الأرض، فبعدما كان صفة مطلقة، تنزّل لمستوى اللّغة والعقول
والألسن البشريّة .
وإلى هذا التّيسير يشير حديث «إنّ ربّي أَرسلَ إليّ أنَ اقرَأَ القُرآنَ على حرفٍ ، فردَدتُ إليه أن
هَوِّن على أمّتي ، فأرسل إليّ أن اقرَأهُ على حرفينٍ ، فردَدتُ إليه أن هوّن على
أمّتي ، فأرسل إليّ أن اقرَأهُ على سَبعةِ أحرُفٍ ، ولك بكلِّ رَدَّةٍ مسألةٌ تَسألْنِيها
، قلتُ اللّهم اغْفِر لأمّتي ، اللّهمّ اغفرْ لأمّتي ، وأخّرتُ الثالثةَ لِيومٍ يَرغبُ
إليّ فيه الخلقُ حتّى إبراهيمُ» .[7]
وكيف لا وقد آخىe بين
القرآن وأهل بيته الكرام، فضلا عن علاقته هو e بالقرآن
العظيم، حيث يقول : «إنّي أُوْشِكُ أَن أُدعى فأُجِيبُ ، وإنّي تارِكٌ فِيكُم الثَّقَلَينِ :
كتابَ اللهِ حَبلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السّماءِ إلى الأرضِ، وعِتْرَتي أهلَ بَيتي، وإنَّ
اللَّطِيفَ الخبيرَ أخْبَرَني : أنَّهما لنْ يَتَفَرَّقا حتّى يَرِدا عليّ الحَوضَ.
فانْظُروا كيفَ تُخَلِّفُوني فِيهما »[8].
وكيف وإنّ القرآن ماكان
بهذه المكانة، إلّا لمّا حلّ في قابليته الذّاتيّة، ولهذا تفوتت الكتب السّماويّة
على حسب الرّسل المنزلة عليهم، ولكن لا تفاوت في صفة الكلام الأزلي، وإنّما في
القابليات النّبويّة، ومن هنا تفواتت الأوامر الشّرعيّة، وتفاضلت التّجليّات الإلهيّة
علينا ..
رمضان المحمّدي
وليلّا يظنّ
البعض أنّ خيريّة رمضان مشروطة باجتهادنا، ذكر e كثير من
نفحات رمضان ولم يعلّقها بعمل صالح، كقوله e : « .. هو شهر أوله رحمة ، وأوسطه مغفرة ، وآخره عتق من النار »[9]
وذلك لنعرف أنّ هذه النّفحة إنّما هي محض فضل على الأمّة لأجل نبيّها e، وكما
قالوا " لأجل عين تكرم مئات العيون" فلأجلهe أكرم
العالمون .
ولقد روى أبو يعلى في مسنده
أنّه قال : «إذا أراد الله أن يقضي بين خلقه
نادى مناد : أين أحمد وأمته ؟ أين أحمد وأمته ؟ فيجيئون . فنحن الأولون والآخرون :
آخر من يبعث وأول من يحاسب . فتفرج لنا الأمم عن طريقنا فنمضي غرّا محجلين من آثار
الطهور ، فتقول الأمم : كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها » .
ولهذا جاء في الآية التي
تلي آية رمضان، قوله تعالى (وإذا سألك
عبادي عنّي فإنّي قريب) لاشك أنّ
الحق سبحانه إسمه القريب، وهو قريب من كلّ الخلق كافرهم ومسلمهم، ولكن ماهي
المزيّة التي تخصّ هذه الأمّة المحمّديّة، حتّى لقّبهم بـ ( عبادي) ؟
لاريب أنّها العناية
المحمّديّة المشار إليها بقوله تعالى : ( سألك ) وهي من جنس
( ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك ) .
التّعرض للنّفحات
فلمّا كان eهو أصل كلّ النّفحات الرّمضانيّة، وهو سرّ الإيمان والإحسان
السّاري فيها، وجب علينا أن نتعرّض لها من بابه e، فكما
لايصحّ عمل إلّا باتباعه e، كذلك إنّ
الله لايقبل عملا إلّا بحبه وشكر وساطته e، ولهذا
فإنّ التّعرض هو التّعلّق بجناب النّبوّة، التي عين النّفحات ومعينها .
فيلزم المؤمن الذي يريد أن
يجدّ في رمضان بالصّيام والقيام، أن يأخذ نصيبه من التّعلق بالجناب الشّريف، حبّا
وشكرا وامتنانا على ما أهدانا، من نفحات ربّانيّة وعنايات رحمانيّة، وإلّا فأنّى
لنا بالإيمان السّاري في رمضان والقرآن والقدر والعيد..، لولا ديهور الحضور خلف
السّتورe، وفي
شرعنا ( لايشكر الله من لايشكر النّاس) .
وإنّ المتأمّل في قوله
تعالى (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا
هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يدرك بأنّه شكر على أن وفّقنا تعالى إلى أن كنّا من أمّة رمضان
والقرآن، وهذا الذي تفتخر به أمّتنا على الأمم، هو بسببه e .
أجل إنّ الدّين ـ عند الأمم
ـ واحد، باعتبار التّوحيد الذي هو الأصل، ولكنّ الملل مختلفة، على حسب الرّسل
والكتب المنزّلة عليهم، فما كانت الملّة المحمّديّة بهذه المكانة إلّا برسولهاe الذي ساد
الرّسل عليهم السّلام، فكان كتابه جامعا للكتب، وأمّته أمّ الأمم، وشريعته أصل
الشّرائع ..
وفي قوله e : « رجب شهر الله،
وشعبان شهري، ورمضان شهر أمّتي »[10] إشارة إلى أنّه
e هو مصدر هذه النّفحات، ولهذا نسبهم إليه { أمّتي} كما نسبهم في
حديث « لو يعلم العباد ما في رمضان، لتمنت
أمتي أن يكون رمضان السنة كلها » وفي
قوله { أمّتي} دلالة على أنّ نفحات رمضان خاصّة بمن انتسب إليه e فقط،
ولهذا فإنّ شهر رمضان حينما يهلّ ، لا تحلّ بركاته على العالم كلّه حتّى الكفّار،
بل هي مخصوصة بمن كان من أمّتهe .
وإذا كان الحال
كذلك فإنّه من لم يتعلّق بالجناب الشّريف، فإنّه سينقص سقيه من معين رمضان
والقرآن، لأنّه خصّصها e بقوله: « إيمانا واحتسابا» وإنّ الإيمان
مشروط به e، لأنّه
شطر التّوحيد، ولقولهe :
«لا يُؤمِنُ أحدُكم حتّى يَكونَ هَواهُ تَبَعاً لِمَا جِئتُ بِهِ»[11]
، ولقوله
e :
«لا يُؤمِنُ أحدُكم ، حتّى أكونَ أحبَّ إليهِ ، مِن ولَدِهِ ، ووالِدِهِ
، والنّاسِ أجمعين» [12].
معين العين
ولقد تحقّق
رجال القوم بهذا المشرب، حيث عرفوا مورد النّفحاتe، فنهلوا
منه صرفا زلالا، حتّى كاشفوا لحظات هبوبها الخاصّة، فاطّلعوا على ليلة القدر، وعلى
ساعة الجمعة، وعلى أماكن إستجابة الدّعاء.. وأمثالها، وماذلك إلّا من بعدما شاهدوا
منبع صدورهاe، ولقد
قرّب سيدي الدّباغ هذا المشهد قائلا : " ولقد أخذ بعض الصالحين طرف خبزة
ليأكله فنظر فيه، وفي النعمة التي رزقها بنو آدم،فرأى في ذلك الخبز خيطا من نور،
فتبعه بنظره فرآه متصلا بخيط نوره e، فرأى
الخيط المتصل بالنور الكريم واحدا، ثم بعد أن امتد قليلا جعل يتفرع إلى خيوط كل
خيط متصل بنعمة من نعم تلك الذوات ".
ومن هنا
وقفوا على الأعتاب، ورفعوا وسائط السّواقي، وكرعوا من معين العين، كما حكي[13]
عن الشيخ بقا بن بطو قدس الله سره : أنّه بكّر في ليلة من غرر رجب إلى زاوية الشيخ
الجيلاني قدس الله سرّه، فسئل عن ذلك فقال : رأيت الليلة نورا أضاءت به الآفاق،
ورأيت أسرار ذوي الأسرار تثب إليه، فتطلّبت ينبوع ذلك النّور، فإذا هو صادر عن
الشيخ عبد القادر الجيلاني قدس الله سره، فأتيته وسألته هل صليت اللّيلة صلاة
الرّغائب، فقال قدّس الله سرّه :
إذا نظرت عيني وجوه حبائبي
|
فتلك صلاتي في اللّيالي الرّغائب
|
وجوه إذا ما أسفرت عن جمالها
|
أضاءت لها الأكوان من كلّ جانب
|
حرمت الرّضا إن لم أكن باذلا دمي
|
أزاحم شجعان الوغى بالمناكب
|
أشق صفوف العارفين بعزمة
|
فتعلو بمجدي فوق تلك المراتب
|
ومن لم يوفّ الحبّ ما يستحقّه
|
فذاك الذي لم يأت قطّ بواجب
|
الخاتمة
وختاما ماهذه إلّا إشارة
بسيطة إلى تلك الحقيقة العظمى، والتي قد تغيب عن أكابر العارفين من أرباب البصائر،
وقليل منهم الذين يشاهدون سرّ الإتّصال بالله تعالى السّاري من الحضرة النّبويّة،
إلى كلّ القوابل الخلقيّة، والنّور السّاقي لكلّ أمور الدّين مصادرا وعبادات
ونفحات وثمرات ومقامات..، فتبصّر أيها المؤمن بمن هو أصلك وإمامك ظاهرا وباطنا ؟
ولا تكن كأولئك الجفاة
المغرورين، الذين إذا جاء رمضان تتطاول شعاراتهم الزّائفة، على حساب التّعلّق
بالحبيبe وإحياء
أيامه الخالدة، ولكنّ رمضان والقرآن منهم براء، في حين إذا حضرت المناسبات
النّبويّة، يجنّ جنونهم بالتّنكير والتّنفير، وما ظنّ أولئك أنّه لولا المولد
النّبوي الشّريف، لما كان رمضان ولا القدر ولا الأعياد، فالله الله والتّعلّق
بالأعتاب.
الصّوم عن السوى
نـفسي صومي عنِ
السِّوى ولْتقومي
|
صَمْداً في وِجْهةِ الحبيب ورُومي
|
أوقفي الدهرَ واعكِفي ومَنَ انْتِ
|
أنتِ حتّى بالنّعلِ لستِ تحومي
|
واتْركِ العالمين
واعمي وصِمّي
|
واشغَفي وادنَفِي ودونك عُومي
|
قيل
هلَّ الهلالُ جا
رمضانُ
|
قلت كلاّ لم يأفلِ الشّهرَ قومي
|
قيل
حلّ السِّباقُ هل تتنافسْ
|
قلت
كلاّ بل آن إبّانُ
نومي
|
قيل
جلّ التّجلي والفيضُ فيضاً
|
قلت
كلاّ لم أبرحِ النّفحَ دَومي
|
قيل دلّ الدليلُ
فيه بوصلٍ
|
قلت كلاّ بل ذاك بابُ العمومي
|
قيل
علّى القبولَ يُقبِلُ
فيه
|
قلت
كلاّ إنّي أحرِّمُ
صومي
|
قيل
ولّى الهلالُ واأسفاهُ
|
قلت
كلاّ ما ولّى ربُّ النُّجوم
|
قيل
زلّ الذي
تزيَّ بحالكْ
|
قلت كلاّ بل ذاك حالُ القُرومي
|
قيل
جلّلْتَ الامرَ هذا جلالا
|
قلت
كلاّ إلاّ على المحروم
|
مذهبُ العِشقِ لا بِقِيلَ وقلتُ
|
وختاماً يارب
إغفرْ لقومي
|
هذا والله ورسولهe أعلم
وصلّى الله على سيّدنا مولانا محمّد ساقي الوِجدانِ سَلْسَبِيلَ الإيمانِ ، ورَحِيقَ الإحْسانِ ،
لِمن تَفانى في عِشْقِهِ ، وظَلَّ بالأعْتابِ نِعالًا ؛ وعلى آله وصحبِهِ وسلّم .
سبحان
ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون
وسلام
على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين