** آية العظمة ** للشّريف الحسني قدّس الله سرّه :

Jوإنّك لعلى خلق عظيم|
لا جرم أنّ لوائح العظمة ظاهرة على هذه الآية العظيمة، فلا شك أنّها تواري ضمنها أسرارا عجيبة غريبة؛ حيث أنّ العظيم Y لا يعظم إلّا عظيما، فأمر عظمه العظيم في القرآن العظيم، حقا إنّه لعظيم .
وممّا زاد الشّأن عظمة على عظمة، تلك التوكيدات التي تنبه على أنّ الأمر خطير، فلوكان الأمر مجرّد الأخلاق الظاهرة، كالصّدق والأمانة ..، لما احتاج الحق Y أن يؤكدها، وحتىّ الكفار مسلّمون له فيها .
فأكّدها بواو القسم، ثمّ ثنّاها بأداة التّوكيد " إنّ " ثمّ ثلّثها بلام التّوكيد، ثمّ ربّعها بحرف الإستعلاء " على " ثمّ خمّسها بالتّعظيم..., فما العلّة من ذلك ياترى ؟!
  
1)      الخلق العظيم هو : الملّة المحمّديّة .
قال سيّدنا ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} أي : على دِينٍ عَظِيمٍ ( الطبري)
وتأويل ذلك أنّ النّبوّة ذات والرّسالة صفاتها، فكلّ رسالة تستمدّ من نبوّة، وكلّ رسالة هي مظهر لصاحبها، فالظاهر عنوان الباطن، والسّيرة تعرب عن السريرة، ومن أعظم مقاما وحالا، من سيّد الوجود e.
فلإن كانت رسالات وشرائع الرّسل تسفر عن نبوّاتهم الصّفاتيّة، فإنّ الملّة المحمّديّة تسفر عن النّبوّة الذاتيّة، وكلّ إناء بالذي فيه ينضح.
وإذا كان الدّين الإسلامي الكامل، المحيط بكلّ الشّرائع الإلهيّة، والمهيمن على سائر الكتب السّماويّة، هو خلقه e، فجدير أن يعظمه العظيم Y في القرآن العظيم.
ووجه الرّبط بين الدّين والأخلاق هنا، أنّ الشّريعة هي منظومة أخلاق، مع الحق تعالى بالعبادة، ومع الخلق في العادة .

2)          الخلق العظيم هو : الخلعة الصّفاتيّة .
ولقد ذهب زمرة من العارفين، إلى أنّ الخلق هاهنا المراد به الصّفة، وفي تعظيم القرآن العظيم لها دلالة على أنّها ليست صفات عاديّة، بل صفات عظيمة مقدّسة، وما الصّفات العظيمة إلّا صفات الحق تعالى، والتي تحقّقت بها الحضرة المحمّديّة، ثمّ ظهرت بها في صورة بشريّة . 
فكأنّ الآية تقول :سبحان الله العظيم ما هذه صفات بشريّة، ولكنّها صفات ربّانيّة عظيمة، فتكون من قبيل ( وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى ) وما شاكلها .

3)      الخلق العظيم هو : المظهريّة الذّاتيّة.
ولقد نحى الخواص ما هو أدق من ذلك، فقالوا في قوله تعالى بـ " على " إشارة إلى المقام الذّاتي، فضلا عن المظهر الصّفاتي، حيث أنّ " على " تفيد الإستعلاء.
فيكون تأويل الآية : إنّك علوت وتفوّقت على رتبة التحقّقات الصّفاتيّة، المعبّر عنها بـ (خلق عظيم ) إلى مستوى التّحقق بالمظهريّة الذّاتيّة،  الملغّز لها بـ ( على ) ولا غرو من هذا فكلّما دقّ المعنى دقّت العبارة .
وهذا ما تدلّ عليه آية ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) حيث أن "السّبع المثاني" هي الصّفات السّبع المعنويّة، و"القرآن العظيم" هو التّحقق الذّاتي.
4)      الخلق العظيم هو : القرآن الحكيم .
وذهبت أمّ المؤمنين عليها الرّضوان، إلى أنّ الخلق العظيم هذا هو القرآن العظيم، فلما سئلت كما في الصحيح، كيف كان خلقهe قالت ( كان خلقه القرآن)، وهو جواب ملغّز دقيق، ولله درّها من صدّيقة إبنت الصّديق عليهما الرّضوان.
وكأنّها تقول: من كانت جبلته ذاتيّة، لا بدّ أن تكون أخلاقه قرآنيّة، ولهذا كانت كلّ أحواله وأفعاله وأقواله معصومةe، كما قال تبارك (إن هو إلّا وحي يوحى) .
وهذا ما تعطيه دلالة القرآن، من معاني ربّانيّة قدسيّة، وصفات نورانيّة روحانيّة، وأحوال غيبيّة كلّيّة، وليس على حسب التّشريع فحسب . 
5)      الخلق العظيم هو : الواسطة العظمى .
ومنها أنّ الخلق العظيم هو : ما وسع الخلق أجمعين، وهذا ما يتضمنه معنى الواسطة العظمى، من سعة الإمدادات المحمّديّة للعالمين .
فما من ذرّة في الكون إلّا ووسعها إمدادهe، لكونه واسطة تأثيرات الأسماء والصّفات بالكلّ في الكلّ، وكفى بهذا الخلق عظمة، حيث أنّ الإمداد يشمل كلّ صفات الإحسان، جمالا وجلالا وكمالا، غيبا وشهادة ...         
6)      الخلق العظيم هو : الرّحمة للعالمين .
ومنهم من رأى أنّ الخلق العظيم هذا ، هو صفة الرّحمة التي تحقق بها e، حتّى كان هو مظهرها بل عينها، بمقتضى قوله تعالى (وما أرسلناك إلّا رحمة للعالمين)، وقوله Y ( بالمؤمنين رؤوف رحيم)، وقول الكاملe ( إنمّا أنا رحمة مهداة ).
ومعنى هذه العظمة في صفة الرّحمة، أنّها هي المهيمنة على تأثيرات باقي الصّفات، لقولهY ( ورحمتي وسعت كلّ شيء) وقولهY ( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيما تدعوا فله الأسماء الحسنى ) وقولهY في الحديث القدسي ( رحمتي سبقت غضبي ) ، وبتعظيمه Y لصفة الرّحمة في نبيه e تعظيم لكلّ صفاته.
7)      الخلق العظيم هو : أدبه الرّفيع مع الرّبY .
ومنهم من فقه أنّ الخلق العظيم، هو في تخلّقه e في بساط العبوديّة الخالصة، وهو المعروف عند القوم بالأدب مع الحضرة الإلهيّة .
ولا شكّ أنّه e هو الإمام ي محراب العبوديّة على الإطلاق، وبه يهتدي ويقتدي المقرّبون قاطبة، وهو ما يمكن أن نوجّه به قول الإمام الجنيد قدس سرّه: "لأنّهe لم يكن له همة في سوى الله تعالى"
وقول الإمام الحسن البّصري قدس سرّه: "لأنّك لم يؤثر فيك جفاء الخَلْقِ، مع مطالعة الحق، وهذا غاية في كمال أدبه e".
8)      الخلق العظيم هو :الفطرة النّورانيّة .
ومنها أنّ الآية تشير إلى قدسيّة الفطرة المحمّديّة، والتي هي كالخلفيّـة المصدريّة لسيرته وشمائله e ، حيث أنّ الخلق مشتق من الخلقة، أي السّجيّة التي خلقت عليها، كمثل اشتقاق الأمّيّة من الحالة التي ولدتك عليها أمّك .
فيكون توجيه الآية : أنّك لعلى فطرتك الرّبانيّة، المشار إليها بـ ( أدّبني ربّي فأحسن تأديبي ) وعلى خلقتك النّورانيّة، المعبر عنها بـ ( كنت نبيا وآدم بين الرّوح والجسد)، ولم تغيّرك الأغيار، ولم تعكر صفوك الآثار، بل ظهرت أخلاقك طبقا للأصل الذي كنت عليه سالفا .  
9)      الخلق العظيم هو :التنزّل للورى .
ومنها أنّ الخلق العظيم، هو في تنزله وتواضعهe إلى المستوى السّفلي، مع عليه حقيقته النّورانيّة من مجد ورفعة، ولكنّ الخلق لم يوفّوه حقّ قدره، لأنّهم جاهلون بمقداره العظيم، فتولّى الحق سبحانه ذلك لأنّه الأعلم بمكانته.
وهذا ما تشير إليه الآية، حيث عدل تعالى عن خطابنا إلى خطابه، مع أنّه e ليس في حاجة إلى كلّ تلك التّواكيد، فكان التّوكيد لنا والخطاب موجه له، ففيها وفي ما سبق من الآيات والتي أتت في معرض الذّب عن جنابه الشّريف، أسلوب رفيع من العناية الربّانيّة .

وكأنّ الحق تعالى حينما أعرض عنهم ولم يخاطبهم، فيه تحقير لشأنهم، وتعظيم لشأن المعصوم e ، بل وفيه إعراض حتى عن المؤمنين، لعجزهم عن إدراك تلك العظمة، فما خاطب إلّا من يدركها e .