2)))) كان خلقه القرآن

2)               تحققه بالقرآن العظيم :
وممّا ذهب إليه جمهور العارفين، في تأويل هذا النّص الشّريف، أنّه يشير إلى تحققهe بالقرآن الكريم، حيث أنّ للسّالك بالقرآن العظيم حالتين : الـتّعلّق والتّحقق، والتّحقق بالصّفة الكلاميّة الأزليّة، خاص بذي المقام الذّاتيe، والكمّل ورثة له e في هذا الحال، وإلّا فلن يستطيع أحد قبول صرفيّة القرآن العظيم، كما قال الإمام الدّباغ قدّس الله سرّه :
( إنّما مثل الأسرار والأنوار التي في القرآن، والمقامات التى انطوى عليها، والأحوال التي اشتمل عليها، كمثل من فصل كسوة وجعل فيها قلنسوة وقميصا وعمامة وجميع ما يلبس، وطرحها عنده، فإذا نظرت إلى الكسوة، ثم نظرت إلى جميع المخلوقات، علمت أنه لا يطيق لباسها وتحملها إلا ذات النبي e، وذلك لقوة خص الله بها الذّات الشريفة) اهـ من الإبريز .
ومعنى التّحقق هذا هو أن يتحقّق e بكلّ إسم أو صفة ربّانيّة تسري في القرآن العظيم، فيكون تبليغه e للكتاب عن تحقق لا عن تشدّق، وبلسان الحال لا بلسان القال، وإليه الإشارة بقوله تعالى (وما ينطق عن الهوى) وبقوله سبحانه ( وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين ) والإمام المبين : هو النّور المحمّدي ..
ولاجرم أنّ علاقة الحضرة المحمّديّة بالقرآن الكريم، هي علاقة تحقق وليست مجرد وساطة قولية، فحينما يمتن عليه سبحانه بمنة نزول القرآن، فإنّه يمتن عليه بالفتح بالقرآن الكريم، كقوله تعالى مثلا: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) فالسّبع المثاني هي إشارة إلى التحقق بالسّبع الصّفات، والقرآن العظيم هو ما تحقق به e من مظهريّة الذّات ».
·       يقول الإمام السّهروردي في [العوارف] : " لا يبعد – والله اعلم – أن قول السّيّدة عائشة رضي الله عنها: ( كان خلقه القران ) رمز غامض، وايماء خفي، إلى الأخلاق الرّبانية، فاحتشمت رضي الله عنها من أن تقول: كان متخلقا بصفات الله تعالى، فعبرت عن المعنى بقولها: كان خلقه القران، إستحياء من سبحات الجلال" اهـ
·     ويقول الإمام علي وفا الشاذلي قدّس الله سرّه :
(كان خلقه القرآن ) أي من حيث وعى ما فيه من الفضائل والمكارم  ، قال سيدي الوالد قدّس الله سرّه:
جُمَلُ الجمال تجمعت في خلقه *** ولخلقه جمَع الهدى فرقانه
ومنه قوله تعالى ( وإنّك لعلى خلق عظيم ) إذ فرقانك الرّباني الحكيم، لا يحكم الا بما هو رحمة وحكمة وحسن وجمال ، فهو مبدأ بيانك المسمى بالفرقان  ، فهو حقيقتك الحقية ، ونسختك الاصلية التي نسختها منها  بالتنزيل البياني في وسع افهام القابلين ، بحسن القبول الايماني .

3)               كان مظهره القرآن  :
ولقد ذهب خاصة الخاصّة من المحققين، إلى معنى أعمق وأرشق، وهو أن قول الصّديقة عليها الرّضوان ( كان خلقه القرآن) أي : كان وصفه القرآن، وكأنّ الكتاب المبين هو سور تفصيليّة لمجمل ما انطوت عليه الحقيقة المحمّديّة من أسرار ذاتيّة، حيث أنّ كل كتاب على قدر النبي الذي أنزل عليه، فالكتب هي كالملخّص لفتح الرّسل عليهم الصّلاة والسّلام ، ولهذا كان القرآن أعظمها، لأنّه لا تفاوت في كلام الله تعالى ، ولكن التّفاوت في قوابل تلك التّجليات الأزليّة .
يقول الإمام الجيلي قدس سرّه في ( الكمالات الإلهيّة في الصفات المحمّديّة ) :
قال الله تعالى لنبيه e: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) والخُلق: هو الوصف، والأوصاف العظيمة هي أوصاف الله تعالى. وسُئلت السّيّدة عائشة رضى الله عنها عن أخلاقهe فقالت: كان خلقه القرآن. أشارت إلى حقيقة التحقق بالكمالات الإلهية، لأن القرآن إنما هو عبارة عن كمالات الله تعالى ولأن القرآن كلام الله. والكلام صفة المتكلم وهو خُلُق النبي e يعنى صفته. فهو متصف بأوصاف الله تعالى جميعها، ظاهرها وباطنها، وهو المعطى لكل منها حقها كما يعطى الموصوف صفاته حقها.


4        ) العجز عن حصر أخلاقه e
وكان الإمام الكتّاني قدس الله سرّه، قد فهم الحديث بأنّه كالتعبير عن عجزها عن الحيطة بالأخلاق المحمّديّة، والتي هي تحققات صفاتيّة ربّانيّة، فأرادت السّيّدة رضي الله عنها أن تصحح مسار السّؤال، فأجابته بهذا الوجه من الإجمال والتّحقيق، وكأنّها تقول هادونك غص في بحور القرآن المجيد، فإن أحطت بها فستحيط بالصّفات المحمّديّة .


فيقول قدّس الله سرّه كما في ( خبيئة الكون ) :
«كان خلقه القرآن أي: كمالات خلقه e لا تتناهى، كما أن معاني القرآن لا تتناهى، وأن التعرض لحصر جزئياتها غير مقدور للبشر، ومن ثم وسعت أخلاقه أخلاق أفراد أصناف بني آدم، بل أنواع أجناس العالم ..
ثمّ ما انطوى عليه e من كرائم النشأة وعظائم الأخلاق، لم يكن باكتساب ولا ترييض وإنما كان في أصل خلقته بالفيض الإلهي والإمداد الرحماني ..

ولا يطلع على معنى هذا إلا من علم تفاسير القرآن الكريم من أوله إلى آخره، وعلم إشاراته، وتلويحاته، وتلميحاته، وتصريحاته، وألغازه، ورموزه وعلم تشعبات خطاباته ووجوهها والمخاطبين بها، وكيفية التخاطب, واستعان على ذلك بعد إتقان هذه العلوم بالانخراط تحت مرتبة عارف كامل واصل؛ لأن ما وراء هذا لم يكشف إلا لهم، ولم ينصب على منصة الجلاء لغيرهم، وفك ما فيه من الطلاسم وانقشع عنه الغبار، فرأى ما فيه من العجائب، والعلوم، والإحاطة بما فيه صلاح العالم، والأولين، والآخرين، وكل ذلك أحاط به خيرًا سيدنا ومولانا محمد e، وهناك يعلم جلالته المحمدية، وما ألبسته من جلابيب الكمالات، والمزايا والخصيصات .
خلاصة

ويستفاد من هذا التحقيق أنّ الحضرة المحمّديّة، هي عين القرآن الكريم في الدّلالة والوجهة والتّعلّق والتّحقق، وذلك من بعد أن امتزجت أسرار القرآن بالنّور المحمّدي، منذ العهود الأولى، ولا يزال إلى أبد الآباد، ولهذا كان حديثهe حق فقال تعالى (وما ينطق عن الهوى) وقال e ( ألا إنِّي أوتيت الكتاب ومثله معه).
بل ولمّا توجس ساداتنا الصّحابة عن فراقه قال لهم ( تركت فيكم ما إن تمسكـتم به لن تضلّوا كتاب الله وعـترتي ) فتأمّل كيف صار الكتاب العزيز من أخص المواريث المحمّديّة،  حتى قرنه e بعترته الطيّبة .
وفي هذا يقول الإمام الأكبر رضي الله عنه في (الفتوحات المكيّة ) :
 " فكان القرآن خلقه e فمن أراد أن يرى رسول الله e ممن لم يدركه من أمته فلينظر إلى القرآن فلا فرق بين النظر إليه وبين النظر إلى رسول الله e فكأن القرآن أنشأ صورة جسدية يقال لها سيدنا محمد بن عبد الله e والقرآن كلام الله وهو صفته فكان سيدنا محمد e صفة الحق تعالى بجملته... فيكون سيدنا محمد e ما فقد من الدار الدنيا لأنه صورة القرآن العظيم "اهـ
·     وقال صاحب «التأويلات النجمية»([1]) : كان خلقه القرآن، بل كان هو القرآن, كما قال العارف:
أَنَا القُرْآنُ وَالسَّبْعُ المَثَانِي *** وَرُوحُ الرَّوْحِ لاَ رَوحَ الآوَانِي

ومن هنا نجد تطابق الوصفين للقرآن الحكيم وللذات المحمّديّة، في كثير من النّصوص الشّرعيّة؛ فمثلا:
يقول تعالى عن القرآن الكريم : (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزل إليهم ولعلهم يتفكرون) .
ويقول سبحانه عن حبيبهe : (قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ، رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ ) .
ويقول تعالى عن القرآن الكريم : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) . وتأمّل في قوله ( أنزل معه ) ؟!
ويقول سبحانه عن حبيبهe :( قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ) وانظر كيف وحّد الضمير هنا سبحانه، يقول الإمام البيضاوي في تفسيره (يهدي به الله) وحد الضّمير لأنّ المراد بهما واحد، أو لأنّهما كواحد في الأحكام .اهـ
قلت: وعليه فإنّه يجوز قياس ما ذكر على مالم يذكر، من بعدما تحقّق الإمتزاج والإزدواج فكلّ صفة للقرآن الكريم، يجوز إطلاقها على الذّات المحمّديّة، تحقّقا ومظهريّة بلا حلول ولا اتحاد، فالقرآن كلام أزلي غير مخلوق، والنّور المحمّديّ عبد كامل مخلوقe ولكنه ليس كغيره من الخلق .
هذا والله ورسوله أعلم وأحكم ، وصلى الله على مجلى القرآن الأعظم، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما .


[1] - الشيخ إسماعيل حقي البروسوي – تفسير روح البيان – ج 10 ص 107 .