1)))) كان خلقة القرآن

]تأويل الحديث الشّريف [

إنّ من الضروري عند أهل العرفان أنّ الباطن لا يسقط الظاهر، بل يؤيده ويحققه، ولقد أفاض شرّاح الحديث الشّريف في معنى هذا النّص اللّطيف، وأجمعوا على مفهوم واحد كلّهم دندن حوله ، وهو موضوع الأخلاق المحمّديّة الكاملة، وذلك على حدّ إطلاعهم، وكلّ إناء بالذي فيه ينضح. ولكن للعارفين مشارب أصفى وأضفى فمنها :
  1)  تخلّقه بالقرآن المجيد :
ولا شك أنّ الذات المحمّديّة قد صبغها الحق تعالى، على التمام والكمال في شمائلها الخلقيّة والخُلقيّة، جمالا وجلالا وكمالا، جسدا وروحا وحقيقة، حتّى عظّم العظيم سبحانه في القرآن العظيم خلقه فقال ( وإنّك لعلى خلق عظيم ) .
ولا غرو من عظمة أخلاق قد نسجتها القدرة الإلهيّة على مشيئها، فكان مظهرا لأسمائها وصفاتها، وابصر بقوله e ( أدّبني ربّي فأحسن تأديبي ) تدرك ماهيّة تعظيم الرّبّ تعالى لهذا العبد المحبوب e .
وكيف لا و هو في سقيّ سرمديّ من معين الذّات الأقدس، مصداقا لقوله e ( إنّي أبيت عند ربّي يطعمني ويسقيني) وحاشا أن يكون أكله وشربه لحما ولبنًا، بل أكل ذلك الجناب الشّريف هو الأنوار والأسرار ..
فكأنّ الصّديقة رضي الله عنها تشير إلى هذا المعنى العميق، أنّ أخلاقه e هي فتح قرآني ربّاني ، وليست بمجرد الفطرة الإنسانيّة أو العادات العربيّة .
وفي هذا يقول الإمام الكتاني قدس الله سرّه ( من خبيئة الكون) :
» وإن أردت زيادة بيان في تحقيق عبودية حضرة الرسول الأعظم فاستمع لما يقال: هذه الصديقية ابنة الصديق-رضي الله تعالى عنهما- لما سئلت عن خُلقه صلى الله عليه وسلم قالت: «ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: فإن خُلق نبي الله كان القرآن .
فأشادت أولاً إلى غلط السائل؛ لأنه يفهم منه أن الأخلاق المحمدية محصورة فنبهته على أنها من أخلاق الله جل أمره الذي لا تنحصر؛ فلذلك قالت: كان خُلقه القرآن، والقرآن اللفظي الملفوظ به دال على النقوش، وهي دالة على ما في الدّهر، وهو دال على المعنى القديم القائم بالذات الأقدس جل سلطانه، ضرورة أن الشيء له وجودات أربع: وجود في العبادة، ووجود في الكتابة، ووجود في الدهر، ووجود في الخارج, فافهم.
فآل قولها: كان خُلقه القرآن إلى أنه اكتنف الشئون الإلهية واكتنفته فكان بالله، ولله، ومن الله، وإلى الله ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾ ، ﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ ، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ﴾ .
هذا وإن لعظم ما اكتنفته الذات المحمدية من تشعبات الأخلاق الإلهية, واشتملت عليه من علمنا بكل أمر يقوم به أمر العالم العلوي، والسفلي استعظم الحق جل مجده خلقه المحمدي بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ.
تنبيه :
وليس هذا ما يعنيه أهل الظاهر بتخلقه بأخلاق القرآن الكريم، بل هذا مخالف لقولهم من جهتين :
أ‌)     أنهم جعلوا الأخلاق الشّريفة مجرّدة عن تحققها بالصّفات الإلهية، والتي تمدّه وتعضده سرمدا، وحاشا أن يكون كرم أيّ شخص ككرم مجلى القدس e

ب‌)     أنّهم يحدّدون تخلّقه e بأخلاق القرآن الكريم، بزمن الرسالة فقط، وكأنّ النّاس متّحدون معه في زمن ومكان ومصدر هذا التّخلّق !!!
ولكن إذا كان القرآن كامنا فيه منذ عهد النّبوّة الأولى ( كنت نبيا وآدم بين الرّوح والجسد ) فإنّ تلك الأخلاق كانت منطبعة فيه من قديم، ومنذ ميلاده الشّريف ظهرت معه e ، ولهذا كانت العرب تشهد له ذلك من قبل البعثة .

وذلك أنّ الأربعين الأولى كانت أخلاقه تستمدّ من النّبوّة، وفي العشرين الأخيرة صارت أخلاقه تستمدّ من الرّسالة ، وفي كلتا الحالتين كان خلقه القرآن ، فالنّبوّة والرّسالة وجهان لعملة واحدة، ألا وهي القرآن العظيم .