بسم
الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى
آله وصحبه وسلم
ورضي الله عن شيخنا الجيلاني
أما بعد :
فإنّ للحضرة المحمّديّة من الكمالات ما
للحضرة الإلهية من التّجليات، لكونه e المجلى الأعظم للذّات، والواسطة العظمى لتأثير الأسماء والصّفات،
فتنوّعت كمالاته e بحسب الأطوار والحضرات، وباعتبار المنازل
والمناسبات، فاستحالت الحيطة بشؤونه لما صبغ عليه من العظمة والإطلاق .
وبحثنا اليوم في حقيقة من أعظم الحقائق
الأحمديّة، والتي لايخوض فيها إلّا ذوي الذّوق الخاص، وهي فيما يتعلّق بصلته e بالقرآن العظيم، من جهة التّحقق الباطني،
الذي يفضي بنا إلى الخوض في أعماق الحقيقة المحمّديّة، لنستخرج بعض الجواهر
المكنوزة في الكنه .
وما هي في الحقيقة سوى إشارت عن بعد،
لعلّها تجذب المريدين إلى تلكم السّواحل المقدّسة، وأمّا الحقيقة كما هي فهي من
فصيلة الأذواق، المنزّهة عن تبذير الأوراق.
ديباجة
حقيقةُ القرآنِ في
العرفانِ
|
حقيقةُ النُّونِ
وليست ثانِ
|
لقد أتانا بالكلام
الذّاتي
|
وجاء المرسلون
بالصِّفاتي
|
ما قصَّةُ الوحيِّ
وما جبريلُ
|
فإنّما التلبيسُ
والتنزيلُ
|
له تنزلاتٌ
للخليقَه
|
من دونِ معناهُ
لدى الحقيقَه
|
تَنزُّلاً بصبغة
الأرواح
|
ثمّ ادّلى بهيئة
الأشباحِ
|
كنزلة النّور الذي جلّاه
|
ما افترقا من يوم
ما تلاه
|
له ظهور شارق
الأنوار
|
شريعة تهدي إلى
الأطوار
|
واعتمت الأسرار بالبواطن
|
ينالها من بالحجور
قاطن
|
بنقطة الباء
المحمّديّه
|
ونون جمع الجمع
بالعنديّه
|
إنّ الثّمار تُجنى
من بعد الصّفا
|
وبالتّفاني في
جناب المصطفى
|
لن ترث القرآن حتى
تعلق
|
فمن فنى ثمّ بقى
تحقّق
|
فشمسه تجلي لك
الحقيقه
|
واقتبس النّور من
الرّقيقه
|
فخذه عنه إن ترم
تحققا
|
لكيما تسمعه طريّا
حقا
|
سل الذين ورثوا
فحققوا
|
ما خطبهم في الإرث حتّى سبقوا
|
أليس فيه أُقرء
القرآن
|
أيضا ومنه فُرّق الفرقان
|
ترقّم الكلام فيه
أبدا
|
فكلّ فرقان من قرءه
بدا
|
فـالسّر سرّه والنّور
نوره
|
شؤونه بكلّها
أموره
|
والباب عند آله
الأخيار
|
مشكاة نور طلسم
الأسرار
|
قد شربوا الكأس
إلى الثّمالى
|
فإنّ مَن حاد
هداهم مال
|
لذا التمسك بهم قد
وردا
|
فجاء لن يفترقا
ويردا
|
واعجب بإيراد
الكلام الحوضا
|
وهو سرّ فاحذر أن
تخوضا
|
ويعتلي الفرقان
مثل ما نزل
|
عودا على بدء إلى
بطن الأزل
|
ويظهر المهديّ
بالتّحقيق
|
يا ليتني كنت من
الرّقيق
|
وللكلام في
العوالم إنجلا
|
ولا نهاية لذاك
الإدّلا
|
ليس التّجويد غاية
الكتاب
|
وإنّما هو فقط
كالباب
|
إنّ المراد صحة الجنان
|
ليس فقط شقشقة
اللسان
|
تتلو أنا هو وقل
كالببّغا
|
لَمَن تلا القرآن
هكذا بغا
|
إنّ التّكلم على
اللّسان
|
هو لأهل الحقّ
والعيان
|
يامن افنيت الدّهر
في الأجور
|
بـشراك بالحور
وبالقصور
|
وأغمض عينيك عن
اللّباب
|
فإنّه مائدة الأحباب
|
واأسفا عليك عند
الباب
|
ولم ترد موارد
الوهاب
|
أليس القرآن كلام
الله
|
وصف مقدّس عن التّناهي
|
وعن فتوح الفهم والإشاره
|
فضلا عن الحدود
والعباره
|
هي صفات الباري لا
نهايا
|
تحدها ولا لها من
غايا
|
بطونه لا تنتهي
فالتنتهي
|
دليل المبتدي به
والمنتهي
|
انتهى
الكتاب الذّاتي
ممّا لاشك فيه أنّ كلام الله تعالى الذي هو صفة
أزليّة، لايختلف في أصله، وإنّما في قابلياته، فالقرآن ماتفضّل على الكتب
السماويّة، إلّا لمّا كانت الحضرة المحمّديّة أكبر من كلّ الأنبياء، بل هوe أصلهم ومصدرهم، فمن هنا
كان القرآن جامعا لكلّ الكتب، لأنّه ذاتيّ التّجلّي، والكتب سواه صفاتيّة
التّجلّي.
فالقرآن إذا هو تجلّي الحقY على الحضرة المحمّديّة،
من حيث لا حيث ولا كيف، فمنذ أن خُلق النّور المحمّدي ـ الحقيقة المحمّديّة ـ فتح
الله له بالقرآن الأحدي.
والقرآن
العظيم من هذه الحيثيّة لايدرك له كنه، فلا يعرفه ولا يذوقه ولا يتحقّق به إلّا
الحقيقة المحمّديّة، لأنّه فتحها الخاص من حضرة الذّات، وأنّى لسواهe بذوق المشرب الذّاتي.
وفي
هذا يقول الشّيخ الجيلي قدّس الله سرّه: " القرآن : عبارة عن الذات التي
يضمحل فيها جميع الصفات ، فهي المجلى المسماة بالأحدية ، أنزلها الحق تعالى على
نبيه e ليكون مشهده الأحدية من الأكوان
" .
وقال
قدس الله سرّه في قوله تعالى : ( ولقد
آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم)
أنّ السبع المثاني هي السّبع الصّفات المعنويّة، والقرآن العظيم هو الذّات، وإلى
هذا المعنى أشارe
: » أهل
القرآن أهل الله وخاصته« فأهل القرآن ذاتيّون، وأهل
الفرقان نفسيون، وبينهما من الفرق مابين مقام الحبيبe وبين مقام الكليم u"[1]
.
فانظر
إلى الأمّة لمّا انتسبت إليه e، تشرّفت بالنّسبة
الذّاتيّة المعبر عنها بـ " أمّة القرآن" أي الأمّة الذّاتيّة الأمّيّة،
وهذا هو معنى الحديث السّابق : » إنّ لله أهلين من النّاس، أهل القرآن هم أهل الله
وخاصّته«[2] فأهل
القرآن هم الأمّة المحمّديّة، والأهلون الآخرون هم الأمم الأخرى .
وإنّ في
قوله تعالى ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدّعا
من خشية الله) إشارة إلى أنّ هذه الذّات المحمّديّة التي
تقبّلت تجلي القرآن الذّاتي، هي أعظم من الجبال، وفيها إشارة أخرى إلى جبل سيّدنا
موسىu حينما اندكّ، وعجز الكليم
عن ذلك التّجلي الذّاتي، والقرآن هنا إشارة إلى هذا التّجلي .
فصل
:
وإنّ معنى القرآن عند العارفين، أبعد من كونه مشتق من التّلاوة،
فهو عندهم يدلّ على الجمع والإجمال، كما قال قَتَادَةَt أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ: " قَرَأْتُ
الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ إِذَا جَمَعْتَهُ " فالقراءة إذا تعني الجمع، وهذا
الجمع على أنواع :
·
فيدلّ على حضرة " الجمع الذّاتي " التي انسلخ منها
القرآن العظيم، وهو المشرب المحمّدي الخاص .
·
ويدلّ على جمعه لحضرات الأسماء والصّفات، أي لمشارب ساداتنا الرّسل
والأملاك والأولياء عليهم السّلام .
·
ويدلّ على جمعه وهيمنته على الكتب السّماويّة الأخرى، مصداقا Y: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا
عَلَيْهِ ) .
·
ولجمعه لعلوم الأوّلين والآخرين، ولرقائق العالمين، لقوله تعالى :
( مافرّطنا في الكتاب من شيء) .
·
ولكونه يجمع من قرأه وعمل به على الله تعالى، وإليه الإشارة بقوله e: ( إنّ
هذا القرآن طرفه بيده الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به ) .
وهذا المعنى الجمعي للقرآن هو الذي انسدل على
النّبوّة المحمّديّة، فكانت جامعة لكلّ النّبوات، جمع الذّات للأسماء والصّفات،
ثمّ انسدل على أمّته فكانت جامعة لفضائل كلّ الأمم السّالفة .
الإصطحاب بين النّور والكتاب
لابدّ أن
يكون كلّ رسول متحقّقا بالكتاب الذي أنزل عليه، لأنّ الكتاب ما أنزل إلّا على قدر
مقامه، فهو فتحه وسرّه الخاص بينه وبين ربّه، ونعني بالتّحقق هنا تلك النّسبة التي
أثبتها حديث » فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر
به.. «[3] .
وعليه
فإنّ كلّ رسول منهم يكون هو عين كتابه، الذي منه تشرق أنواره وفيه تكنّ أسراره،
ولهذا قالت الصّديقة عليها السّلام: " كان خلقه القرآن " وقالت : "
كان قرآنا يمشي على الأرض " .
فيصير من
رآه فكأنّما رأى القرآن الكريم، ومن قرأ القرآن الكريم فكأنّما خاض في نبوّته e، وهذا ما يشير إليه حديث
: »مَنْ قَرَأَ
الْقُرْآنَ فَقَدِ اسْتَدْرَجَ النُّبُوَّةَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لا
يُوحى إِلَيْهِ .[4]«أي النّبوة المحمّديّة التي تسري في القرآن
العظيم، وهذا بحكم الوراثة، وكثير ما يعبر السّادة العارفون عن هذا المقام بحديث : »إنّ لكل شىء قلب، وقلب القرآن يس.[5]«
وإنّ
تنزّل الكتب على ساداتنا الأنبياء، هي نوع من التّجلّي الربّاني الذي لا يقبله
سواهم، وهي ضرب من التّحقق على قدر قابلياتهم، وليس مجرّد سمع من الملك فتبليغ إلى
البشر، ولهذا قال تعالى ( نزل به الرّوح الأمين على قلبك) ولم يقل
سمعك، وفي القلب دلالة على التّحقق، وإلّا لكان كلّ منّا متأهّل لنزول الوحي.
وإنّ هذا
الإصطحاب كان بين القرآن والحقيقة المحمّديّة، من أوّل قدم في الوجود النّوراني،
حيث لم يكن سواه عبدا لله تعالى، فهناك حالما تجلّى الحق تعالى له بالمعرفة
الذّاتيّة، أخذ هذا التّجلّي لقب القرآن، وذلك بحكم " جمع الجمع " .
وبمقتضى
هذا الإصطحاب الأزلي، كان ولا بدّ على قاصد حضرة الكتاب أن يدخله من بابهe، فما الكتاب إلّا أنوار
رسالته التّكليفيّة، وأسرار نبوّته التّعريفيّة، فعلى علماء الظاهر أن يقتبسوا
أنوار الفرقان من الرّسالة المحمّديّة، وعلى علماء الباطن أن يقتنوا أسرار القرآن
من النّبوّة الأحمديّة .
ولقد حقّقها الشيخ الأكبر قدّس
الله سرّه في فتوحاته فقال : " فمن أراد أن يرى رسول اللهe ممن لم يدركه من أمته ، فلينظر
إلى القرآن . فإذا نظر فيه فلا فرق بين النظر إليه وبين النظر إلى رسول اللهe، فكأنّ القرآن انتشأ صورة جسدية
يقال لها سيّدنا محمد بن عبد الله e. والقرآن كلام الله وهو صفته ،
فكان سيّدنا محمدe صفة الحق ... ".
وعليه
فإنّه لولم يتجلّى e بالقرآن
العظيم، لما استطاع غيره من الأنبياء أن يتصدّى له، لأنّه مشربه الذّاتي الخاص
الذي لايشاركه فيه سواه، وهذا معنى قول الإمام الدبّاغ قدس الله سرّه: " إنما مثل
الأسرار والأنوار التي في القرآن، والمقامات التى انطوى عليها، والأحوال التي
اشتمل عليها، كمثل من فصل كسوة وجعل فيها قلنسوة وقميصا وعمامة وجميع ما يلبس،
وطرحها عنده، فإذا نظرت إلى الكسوة، ثم نظرت إلى جميع المخلوقات، علمت أنه لا يطيق
لباسها وتحملها إلا ذات النبي e، وذلك
لقوة خص الله بها الذات الشريفة " اهـ من الإبريز.
فصل :
ومن هنا نجد تطابق الوصف للقرآن الحكيم وللذات المحمّديّة، في كثير
من النّصوص الشّرعيّة؛ فمثلا:
يقول تعالى عن القرآن الكريم : (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للنّاس ما نُزل إليهم ولعلهم يتفكرون) . ويقول سبحانه عن حبيبه e : (قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا، رَسُولًا يَتْلُو
عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ ) .
ويقول تعالى عن القرآن الكريم : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ
وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) . وتأمّل في قوله ( أنزل معه ) فإنّه
إشارة قريبة جدّا إلى الإصطحاب هذا!
ويقول سبحانه عن حبيبه e :( قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ،
يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ) وانظر كيف وحّد الضمير هنا سبحانه، يقول الإمام البيضاوي في
تفسيره (يهدي به الله) وحد الضّمير لأنّ المراد بهما واحد، أو لأنّهما كواحد في الأحكام
.اهـ
ويقول سبحانه
عن القرآن العظبم : ( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ). وقال فيه e : (وإنّك لتهدي إلى صراط مستقيم) .
ويقول سبحانه
عن القرآن العظبم : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ).
وقال فيه e : (وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين) .
ويقول سبحانه
عن القرآن العظبم : ( بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ ) وقال فيه e : (إنّا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا)
ويقول سبحانه
عن القرآن العظبم : ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ).
وقال فيه e : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وقال : ( وَكانَ فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) .
وعليه فإنّه يجوز قياس ما ذكر على مالم يذكر، من بعدما تحقّق
الإمتزاج والإزدواج فكلّ صفة للقرآن الكريم، يجوز إطلاقها على الذّات المحمّديّة،
تحقّقا ومظهريّة بلا حلول ولا اتحاد، فالقرآن كلام أزلي غير مخلوق، والنّور
المحمّديّ عبد كامل مخلوقe ولكنه
ليس كغيره من الخلق .
بطون الكمون
إنّ من الضّروري العرفاني أنّ للقرآن بواطن، كما
جاء في حديث : « أنزل القرآن
على سبعة أحرف لكل آية منها ظهر وبطن«[6] ولئن
كان النّور المحمّدي هو الذي يسّر القرآن في التّنزيل الظاهر، فإنّ باطن القرآن
كامن فيه e من الأزل، لكونه أوّل من
تلقّاه من الكنزيّة الأحديّة، ثمّ خزّنه مجملا في قاموس حقيقته الأحمديّة، فصار
منها يصدر مفصّلا على قدر القوابل .
بل ولإن
كان خلقه القرآن باعتبار ظاهره المحمّدي، فإنّ حقيقته القرآن باعتبار باطنه
الأحمدي، فما من طور من أطوار كلام الله تعالى، إلّا وهو مكنون في طور من أطوار
الحضرة المحمّديّة، والطور هذا يسمّى باطنا للطور القرآني ذاك .. وهكذا، وهو ما
يشير إليه حديث : »إنّ لكلّ شىء قلب، وقلب القرآن يس.[7]« أي قلبه
الذي يحويه ويعيه، وهذا من قبيل الحديث القدسي : ( .. ولكن
وسعني قلب عبدي المؤمن) .
حِيطةُ
النُّونِ قبلَ نَـشْرِ الحُروفِ
|
فبُحورُ
الكلامِ يَطوِيها طَيّا
|
نُقطةُ
الرِّتقِ قبلَ فَتْقِ الباءِ
|
بَعدَها قامَتِ النُّعوتُ عَلِيّا
|
مَخْبَئُ
القُرْءِ جَمْعُ جَمعِ المعانِي
|
فَخُذِ
الحقّ منهُ جَمًّا نَدِيّا
|
وعليه
فإنّ كل من خاض في بطائن القرآن، فإنّما به وفيه e يرد على المعين، لأنّه هو
باب الله تعالى وباب كلامه، بل هو عين كلامه وخزانته التي بها يكتنز، وليس هذا
للأمّة فحسب، بل حتّى في الأمم السّابقة من أنبياء وأملاك وجانّ، لأنّ كلّ كتاب
نزل فإنّما هو فرقان متنزل عن القرآن العظيم، إذ أنّ باطن كلّ الكتب السّماويّة هو
القرآن العظيم، والقرآن العظيم مكنون في الحقيقة المحمّديّة .
وإن شئت
أن تقول : إنّ الذين يخوضون في بطون القرآن، إنّما يخوضون في بحور أسراره e، كما أنّ الذين يخوضون في
بحوره e، إنّما يخوضون في بطون القرآن،
واقرا إن شئت قوله e: »مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَقَدِ اسْتَدْرَجَ
النُّبُوَّةَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لا يُوحى إِلَيْهِ[8]«والقراءة هنا هي التّحقق؛ وليس مجرد التّلاوة،
كما قالوا ذلك في حديث " إقرأ وارقى " وفي حديث " الأسماء
الحسنى"، أنّ الإحصاء هو التّحقق وليس مجرد حفظها.
تنزلات القرآن والنّور
وإنّ لهذا
الكتاب الأعظم المكنون في الحقيقة المحمّديّة، تنزّلات للرّسالة والدّلالة على
الله تعالى، ولكنّ لهذه الرّسالة أطوار على حسب العوالم، وهكذا بالتّرتيب :
1) القرآن الذّاتي: هو
التّجلي الأوّل الصّادر عن حضرة الأزل الذّاتي، إلى النّور الأول ـ الحقيقة
المحمّديّة ـ وسمي بالقرآن لجمعه وإجماله، ونسب للذّات لأنّ الذّات هي مجال الجمع
والإجمال، فصار إسم القرآن : إشارة إلى ذاتيّة المشرب الأحمدي.
وهذا
الطّور لا يخوض فيه سواه، فكما لا يخوض أحد في حقيقته المحمّديّة، التي قال عنها :
» ماعرفني
حقيقة غير ربّي[9]« كذلك قال e عن كتابه
: » يأتي القرآن
يوم القيامة بكرا كأن لم يمس«[10] وقالe : »كأنّ النّاس لم يسمعوا القرآن حين يتلوه الله عليهم
فى الجنّة« [11].
كذلكَ القرآنُ قد تنزَّلْ
|
مِن مُستواهُ المُطلَقِ المؤزّلْ
|
كان على التّجريدِ والإطلاقِ
|
فصارَ مَحصورًا على الأوراقِ
|
2) الفرقان الصّفاتي: هو
التّجلّي الثاني الصّادر من حضرة اللّاهوت الصّفاتي، إلى الرّوح الأعظم e، حال تنزلاته e على
الملإ الأعلى، وسمّي بالفرقان لفرقه وتفصيله للقرآن الإجمالي، ونسب للصّفات لأنّها
فرقان الذّات .
وهو في
هذه الحضرة تفصيل لما فوقها، كما أنّ الصّفات تفصيل للذّات، والرّوح تفصيل للنّور،
والحضرة العلويّة تفصيل للحقيقة المحمّديّة، وهذا الطور من الكتاب هو مخاض أهل
الحضرة من أنبياء وألياء وأملاك ..
3) الكتاب الآثاري: هو
التّجلّي الثالث الصّادر من حضرة الأفعال إلى حضرة الذّات المحمّديّة، حال تنزلها
في هذه الدّار، فكما تصوّر القرآن من بعدما كان صفة أزليّة منزّهة عن الحروف
والأصوات، كذلك تجسّد النّور الأحمدي إلى صورة بشريّة، كما قال تعالى : ( قد جاءكم من
الله نور وكتاب مبين) .
وهكذا هو
القرآن والنّور المحمّدي لم يفترقا أزلا، ولن يفترقا أبدا،كما قال تعالى ( واتّبعوا
النّور الذي أنزل معه) وقال e . «إنّي أُوْشِكُ أَن أُدعى فأُجِيبُ
، وإنّي تارِكٌ فِيكُم الثَّقَلَينِ : كتابَ اللهِ حَبلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السّماءِ
إلى الأرضِ، وعِتْرَتي أهلَ بَيتي، وإنَّ اللَّطِيفَ الخبيرَ أخْبَرَني : أنَّهما
لنْ يَتَفَرَّقا حتّى يَرِدا عليّ الحَوضَ. فانْظُروا كيفَ تُخَلِّفُوني فِيهما »[12] فإنّ الكتاب لم يفارق أهل البيت، فكيف به هوe .
الكتاب المهيمن
وإنّ من
ضروريات عقيدتنا أهل السّنة، أنّ القرآن العظيم جامع لكل الكتب السّماويّة، مصداقا
لقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) وماهذا
بنسخه للكتب السّابقة فحسب، ولكن بختميته الشّموليّة الأبديّة، وفاتحته الأصالية
الأزليّة .
وذلك
لكونه الكتاب الذّاتي، المتمثّل في التّجلّي الأحدي، المتنزّل على النّبي الأمّي ـ
أي ذي المشرب الذّاتي ـ المحيط بنبوته بكلّ النّبوّات، والمهيمن برسالته على كلّ
الرّسالات .
وأمّا ما
سواه من الكتب فهو أيضا كلام الله تعالى القديم، ولكنّها على حسب تلقي قابليات
الرّسل ذوي المشرب الصّفاتيّ، فكأنّ الحق تعالى كلّمهم من وراء حجاب الصّفات، كما
كان حال الكليم الذي خوطب بـ ( لن تراني ) .
وأمّا
العبد الكاملe فإنّه تعالى كلّمه كفاحا
ذاتيّا صرفا، وهذا ما تشير إليه الرّؤية العينيّة في حديث المعراج، وشتّان بين من
يكلّم كفاحا، وبين من يكلّم من وراء حجاب، أو مظهر.
وهذا من
معاني تسميّة كتابه بـ " القرآن " المشتق من الجمع لغة، والجمع هنا جمعه
للكتب السّابقة، المستمد كلّ كتاب منها بمشرب خاص من مشارب الأسماء، ولكنّ القرآن
الأحدي فهو (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا
شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ) .
وإنّ
جمعيته للكتب المقدّسة ليست في الأحكام التشريعيّة التّكليفيّة فحسب، بل وجمعيته
لمشارب الكتب الصّفاتيّة، من عيون الحقائق التّعريفيّة، بمقتضى معينه الأحدي
المطلق، المعبر عنه بـ «ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما
مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذى أوتيته وحيا أوحاه الله إلى فأرجو أن أكون
أكثرهم تابعًا
يوم القيامة»[13] .
وهذا التّوجه هو ما يتناسب مع آية : ( وإنّه لفي
زبر الأولين) فالزّبر هنا هي الكتب، وهي لغة القِطَعُ، كما
في قوله تعالى : ( آتوني زبر الحديد) فإن
كانت تلك الكتب السّماويّة زبرا ـ قِطَعا ـ فلا بدّ أن تكون مقطّعة من كتاب جامع
لها، ألا وهو القرآن العظيم .
ولهذا
ترى أنّ الكتب السّابقة، كلّ كتاب منها يطوّس ببعض الأسماء الإلهيّة التي عليها
يدور، ثمّ أتى الكتاب الذّاتي موشّحا بكل تلك الأسماء الحسنى، وزاد عليها تدبيجا
بالإسم المفرد الذي هو علم على الذّات، وتتوّج من بينهم بالإسم الأعظم المكنون
فيه، كمون الهويّة في الإنّيّة، ولا غرو فإنّ الحقيقة المحمّديّة هي مظهر هذا
الإسم الأعظم، ومجلى ذاك الإسم المفرد، ونسخة تلك الأسماء الحسنى، فكيف لا يكون
كتابه الخاص مهيمنا على كلّ الكتب الرّسليّة .
فإن شئت
أن تقول أنّه e بسبب هذا
القرآن العظيم، تأهّل لأن يكون نبيّا جامعا، ورسولا مهيمنا، وإن شئت أن تقول أنّ
القرآن العظيم بسبب تنزّله على هذا النّبي الأمّي الجامع، كان كتابا جامعا لكلّ
الكتب السّماويّة، وبهذا كانت أمّته خير أمّة أخرجت للنّاس.
وفي قوله
تعالى : ( أخرجت للنّاس) إشارة
نفيسة: أي كانت في حضرتنا ثمّ أخرجناها للعالم، كما كان نبيها e في
العماء ثمّ أرسل إلى النّاس، ولهذا تعجب الخلق منهم يوم الحشر كما جاء في حديث : « إذا أراد الله أن يقضي بين خلقه نادى مناد: أين أحمد
وأمته؟ أين أحمد وأمته؟ فيجيئون. فنحن الأولون والآخرون : آخر من يبعث وأول من
يحاسب . فتفرج لنا الأمم عن طريقنا فنمضي غرا محجلين من آثار الطهور ، فتقول الأمم
: كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها »[14]
وصل :
ومن هنا أخذ العهد على النّبيئين أن يطووا
شرائعهم تحت ظل نبوّته، وكتبهم تحت سلطان كتابه المهيمن، فقال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا
آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا
مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ) ولاشكّ أنّ هذا الميثاق ماكان إلّا ليطبّق في الواقع، وقد
كان حينما بعث آمن به الكلّ ونصروه واتّبعوه حتّى وإن لم نفقه كنه ذلك، وكفى
باجتماعهم ليلة الإسراء وصلاتهم خلفه إشارة لأولي الأبصار .
وهذا مايؤكده
حديث : « لو كان موسى حيّا،
ما وسعه إلّا اتّباعي »[15] وحديث: « والذى نفسى بيده لو
أتاكم يوسف وأنا بينكم فاتبعتموه وتركتمونى لضللتم »[16] وحديث: « كيفَ أنتم إذا نَزل ابنُ مريمَ فيكم ، وإمامُكم
منكم »[17]
وفي هذا يقول
الإمام الدبّاغ قدس الله سرّه : "ففي القرآن العزيز من الأنوار القدسية
والمعارف الربانية والأسرار الأزلية شيء لا يطاق، بحيث إن سيدنا موسى صاحب
التوراة، وسيدنا عيسى صاحب الإنجيل، وسيدنا داود صاحب الزبور، لو عاشوا حتى أدركوا
القرآن وسمعوه، لم يسعهم إلا اتباع القرآن والإقتداء بالنبي e في
أقواله، والإهتداء به في أفعاله، ولكانوا أول من استجاب له، وآمن به، وقاتل بالسيف
أمامه " اهـ من الإبريز .
بك طافت أرواحُها
أنبياءُ
|
اللّهِ غيبا فبايعوك
وجاؤا
|
عنك نابوا وبـشّروا بك
أصنا
|
فِ البرايا وصحت
الأنباء
|
المؤاخاة بين العترة و الكتاب
وفي مؤاخاته
e بين
الكتاب وأهل بيته الكرام، في حديث : «إنّي تارِكٌ فِيكُم الثَّقَلَينِ
: كتابَ اللهِ حَبلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السّماءِ إلى الأرضِ، وعِتْرَتي أهلَ بَيتي،
وإنَّ اللَّطِيفَ الخبيرَ أخْبَرَني : أنَّهما لنْ يَتَفَرَّقا حتّى يَرِدا عليّ
الحَوضَ. فانْظُروا كيفَ تُخَلِّفُوني فِيهما »[18].
دلالة على أنّ الكتاب
هو عين الحضرة المحمّديّة، حتّى ورثه منه ذريّته e.
وكذلك في قوله e «علي مع القرآن،
والقرآن مع علي، لن يتفرقا حتى يَرِدَا علىَّ الحوضَ »[19]. وقوله e «إنّ منكم من يقاتل
على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله، قيل : أبو بكر وعمر، قال : لا؛ ولكنه
خاصف النعل . يعنى عليا ». [20]
فلئن كان
القرآن هو سرّ النّبوّة السّاري فيه e حتّى كان قرآنا يمشي على
الأرض، فإنّ أهل البيت نسخة من هذه الذّات القرآنيّة، فكان كلّ فرد منهم كلمة من
كلمات الله تعالى، يدلّون بلسان الحال قبل القال، ولاغرو ممّن عجنت ذاتهم بأنوار
النّبوّة، كما حكي عن الشيخ يحيى بن معاذ الرازي قدس الله سرّه : لمّا سئل عن أهل
البيت؟ قال: ما أقول في طينة عجنت بماء النبوة وغرست بماء الرسالة، فهل ينفح منها
إلّا ريح الهدى وعنبر التقى ؟!.
ولهذا
تجد دلائل الإعجاز ظاهرة عليهم، حتّى يشهد لسان الحال : ( الله أعلم
حيث يجعل رسالته) وإنّ هذه الشّهادة كثير ما قيلت في أعيانهم،
كما جاء في القصة المشهورة أنّ رجلا استطال على الإمام زين العابدينu فتغافل عنه، فقال له الرجل: إياك أعني فقال له الإمام: وعنك
إذن أغضي. ثمّ قال له الإمام : إن كنت كما قلت فاستغفرالله،وإن لم تكن كما قلت
فغفر الله لك،فقام إليه الرجل وقبل رأسه وقال: جعلت فداك لست كما قلت فاغفر لي. قال
غفر الله لك، فقال الرجل ((الله
أعلم حيث يجعل رسالته)) .
وحكي أنّ عثمان
بن حيان المري كان واليا على المدينة المنورة ، من قبل الوليد بن عبد الملك ،
فأساء لساداتنا الأشراف إساة عظيمة ، فلما عزل واستضعف، أتاه سيدنا عبد الله المحض
وأخوه الحسن المثلث عليهما السلام ، وقالا له: إن كانت لك حاجة، أو نزلت بممهمة،
فانزلها بنا فإنّا في العون، فلجأ إليهم عثمان، وبلغ كل ما أراده، فجعل بعدها يقول
(( الله أعلم حيث يجعل رسالاته )) .
وحكى
الشيخ المحبّي في "خلاصة الأثر" إنّ العارف بالله السيد محمد بن عمر الرديني الحسني
اليمني، كان ينفق جميع ما يحصل له من بلاده ومزارعه على كثرتها، ولما حضرته الوفاة،
قرأ من أول سورة الأنعام إلى قوله تعالى ((الله أعلم حيث يجعل رسالته)) ثم فاضت روحه الطّاهرة .
فذلكة :
ولقد استوقفني معنى قوله e « لنْ يَتَفَرَّقا حتّى يَرِدا عليّ الحَوضَ »[21].
وهو لاشك من العلم
المكنون، فورود أهل البيت على الحوض معلوم، أمّا ورود كتاب الله تعالى فهو العجيب،
لكونه صفة أزليّة، وأوامر معنويّة، فكيف ترد على حوض حسي ؟!!
وما سنح به الذّوق الآن
هو أنّ الصّفة أمر معنوي، ولا ظهور لها إلّا بآثارها، فكما أنّ المصحف الشّريف هو
صورة لكلام الله الأزلي، كذلك للكلام مظاهر أخرى متمثلة في الورثة، ومن هنا كان e قرآنا يمشي على الأرض، ثمّ كان ورثته
كلمات تفصيليّة له، فهم فرقان وهوe القرآن .
فالكتاب كما جُمع أوّلا
فيه e، سيجمع ختاما في أهل بيته الكرام، وأهل
البيت هم الذين سيرجعونه إلى صاحبه e، بمقتضى قرآنه بعد فرقانه، وهذا هو معنى
ورود الحوض، لأنّ الحوض هنا إشارة إلى المعين الذّاتي، المعبر عنه بـ "القرآن
العظيم" .
قَرِينُهُم كِتابُ ربّي
أبَدا
|
فَلَا تَسَلْ
عَنِ الكَلامِ أَحَدا
|
أمَّا
الحَدِيثُ فَهُمُ اللِّسانُ
|
عَنِ
الحَبيبِ الكُلُّ تُرْجُمانُ
|
ومن تطلّع على أحوال
أهل البيت مع القرآن العظيم، سييقن بهذه الحقيقة، وسأضرب مثلا بالقطب أحمد ابن
إدريس قدس الله سرّه، وهو أحد أركان هذا البيت[22]
حيث يقول :
كان لي حرص عظيم في
خدمة المشايخ ، وكنت أظن أني لا أنقطع أبداً عن صحبة واحد بعد واحد ، حتى قيل لي
من الحضرة الإلهية (لم يبق على وجه الأرض أحد تنتفع منه إلا القرآن) .
ثم آخى رسول الله e بيني وبين القرآن، وقال e للقرآن : "أبد له ما فيك من العلوم
والأسرار"، فجلست سنين عديدة لا أشتغل بشئ غير القرآن العظيم .
الكتاب ومثله معه
ولقد جاء
في حديث مكنون أنّه e قال : « أوتيت الكتاب
ومثله معه »[23]وهذه
المثليّة هي المعبر عليها عندنا بالمظهريّة، ويعني بالمثل هنا الحديث الشّريف،
وذلك من بعدما تحقّق بالقرآن العظيم، فكان كلامه فرقانا أبديا، للكلام الأزلي،
مصداقا لقوله تعالى : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ
يُوحَى) ولقوله e لسيدنا ابن عمروt لما نهاه بعضهم عن كتب
الحديث، فقالe : « أكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق»[24] فلمّا
كان e مظهرا للذّات، كان كلامه
مظهرا لكلام الله تعالى .
وإنّ
حديثه e ليس كحديث غيره، لأنّ
" كل إناء بالذي فيه ينضح " فهو صاحب المشرب الذّاتي، فكان حديثه ذاتي
المصدر، وإنّ للحديث بحكم هذه المظهريّة المثليّة، ترابطا مع الكتاب في كل أطواره
الثلاثة :
-
فحديثه النّوراني الصّادر عن الحقيقة
المحمّديّة، مظهر للقرآن الذّاتي .
-
وحديثه
الرّوحاني الصّادر عن الرّوح الاعظم، مظهر للفرقان الصّفاتي .
-
وحديثه
الجسماني الصّادر عن الجسد الشّريف، مظهر للكتاب الآثاري .
وإنّ في
إسم " الحديث" إشارة إلى أنّ
هذا القول الذي ينطق به e هو تجلّي حديث من تجليات
كلام الله تعالى، واقرأ إن شئت ( وماينطق عن
الهوى) فلم يقل تعالى بالهوى، ولكن قال عن الهوى، فلا
يريد ينطق بالحقّ بل عن الحقّ، أي يستمد من الحقّ، وما هذا الحق إلّا القرآن
العظيم الذي تحقق به e، ألم تسمع إلى السيدة
الصّديقة : ( كان خلقه القرآن ) فلمّا
كان القرآن مستودعا في باطنه، كان ظاهره من أقوال وأفعال واحوال كلّها قرآنا مجسّدا
.
فصل :
وإن شئت
أن تقول أنّ قوله e : « أوتيت الكتاب
ومثله معه » إشارة إلى الباطن والظاهر، أي كما أوتي الكتاب
الظاهر المتنزّل لنا، فقد أوتي الكتاب الباطن المكنون في الهاهوت، فأظهر فرقان
الرّسالة وأبطن قرآن النّبوّة، أو قل أظهر الكتاب المقيّد وأبطن الكتاب المطلق،
أوقل أظهر الفرقان الأبدي وأبطن القرآن الأزلي، أوقل أظهر الفرقان الواحدي وأبطن
القرآن الأحدي .. وهكذا فافهم .
ظاهرُهُ يُتَرجِمُ
الفُرقانَا
|
وبَطْنُهُ يُؤوِّلُ
القُرآنا
|
إن رُمتَهُ وجَدْتَهُ
شَريعَهْ
|
مَحفوفَةً بالتُّحَفِ
البَديعه
|
وإنْ تبـصّرتَ بما يُواري
|
لَشِمْتَ سِرَّ الذّاتِ
فيهِ ساري
|
ترجمان الأزل
إعلم أنّ
كلام المولى تعالى كصفة أزليّة، هو منزه عن اللّغات الخلقيّة، ولكنّ ساداتنا
الرّسل هم الذين يترجمونه إلى كتب مقروءة، كما قال تعالى : ( وما أرسلنا
من رسول إلّا بلسان قومه ليبين لهم) .
وكذلك هو
القرآن العظيم، فإنّه يتجلّى في القابليّة المحمّديّة مجرّدا، ثمّ يترجمه e بلسانه العربي المبين،
مصداقا لقوله تعالى : ( نزل به الرّوح الأمين على قلبك، لتكون من المنذرين
بلسان عربي مبين) .
وتتضح
الدّلالة في قوله تعالى : ( إنّه لقول رسول كريم) على
رأي العارفين الذين يقولون أنّ المقصود هنا سيّد الوجود e، وذلك أنّ للكتاب نسبتين
: نسبة الكلام الأزلي المجرّد، ونسبة القول النّبوي المترجم، فالأول مصدر والثّاني
مظهر.
وإلّا
فلا يشكّ من كانوا يسمعون القرآن العظيم يصدر من بين شفتيه الشّريفتين e، أنّ اللّفظ والنّطق
واللّغة صفته e، وأنّ المعنى والأمر الذي
فيه هو صفة الله الأزليّة، وأنّى لنا بالتّجلّي الصّفاتي مباشرة، لولا وساطة
القوابل النّبويّة، التي قيل فيها : ( فإنّما
يسرناه بلسانك) .
وإنّ هذه
التّرجمة للكلام القديم باللّسان الحادث، وقعت مرتين :
·
الأولى :
في تنزّل القرآن الحقّاني، على الملإ الاعلى، فترجمه لسان الرّوح الأعظم e بلسان
سرياني روحاني، وهو الذي في اللّوح المحفوظ، وعند الملائكة والرّوحانيين العلويين
.
·
الثّانيّة
: في التنزّل على الملإ السفلي، فترجمه لسان الجسد الشّريف، بلسان عربي مبين .
ولاغرو
من هذا فلا تفرقة في الكتاب، فكلام الله الأزلي واحد، ولكنّ تجلياته وتنزّلاته
وبواطنه كثيرة، كما أنّه كثير القراءات اللّفظيّة، حيث أننا نقرؤه على عشر روايات
اليوم، فلا شكّ أنّ هذا التّنويع في القراءات، هو من مظاهر التّرجمة النّبويّة،
كما جاء في حديث تخفيف القراءات.
تنبيه
وقل لمن
يشكّ في هذا : أليس كلام الله تعالى منزه عن الحروف واللّغة؟
إذا فهذه
الكتابة والحروف واللّغة التي في المصحف حادثة مخلوقة، ولابدّ أن يكون لها زمن
خلقها الله تعالى فيه، فيقول أهل التّفسير أنّ خلق كتابته كان على اللّوح المحفوظ[25]، ونحن
نقول أنّ اللّوح المحفوظ والقلم الذي يمده، كلاهما يستمدّان من النّون الأحمدي .
جوامع الكلم
إنّ كلّ
نبي من الأنبياء هو كلمة الله تعالى، باعتبار مظهريتهم الصّفاتيّة، كما قيل في
المسيح u: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ) أمّا
الحقيقة المحمديّة فهي كلام الله تعالى بكلّه، مصداقا لقوله e: « أوتيت جوامع
الكلم »[26]وهذا
باعتبار مظهريته الذّاتيّة الأحديّة، المعبر عنها بقوله تعالى : ( وكل شيء
أحصيناه في إمام مبين) .
وهذه
الكلمات الإلهيّة الصّفاتيّة كلّها، هي كالفرقان لمن أوتي جوامع الكلم حتّى كان
قرآنا، فمن أراد أن يخوض في محيط العبد القرآني، فعليه أن يحيط ببحور كلمات الله ـ
الأنبياء ـ تلك، وأنّى لنا بذلك وقد قال تعالى : (قُلْ لَوْ كَانَ
الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ
كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ) .
ولك أن تتوقّف مع قوله تعالى ( كلمات ربي )
ولماذا نسبت إلى محتده ؟! ولم يقل كلمات الله مثلا، وماذلك إلّا : لأنّ تلك
الكلمات كلّها مجموعة فيه تحققا ذاتيا، وهذا هو معنى حديث : « أوتيت جوامع
الكلم » أنّ تلك الكلم هي الأنبياء والرّسل، بحكم
مظهريتهم لأمر الله تعالى في الطور الصّفاتي .
وكما هو
جامع لكتاب الله تعالى المسطور، فهو جامع لكتاب الله تعالى المنظور، فهو في كلّا
الحالتين القرآن الذّاتي .
نزول الوحي
إذا كان
القرآن العظيم مكنون في باطنه e، فإنّه لايحتاج إلى واسطة
من الخارج تأتيه به، وهل هناك في الوجود من هو أقرب من الحبيبe إلى الله تعالى، حتّى
يتوسط له ؟! أوَ ليس هو القائل : »كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد [27]« ولاشك
أنّ كتابه كان معه، فإذا كان نبيا من ذلك العهد، فمابالك من العهد الذي بعده، من
الولادة إلى البعثة الرّساليّة.
ولكنّ
الرّسالة والبعثة والإذن بالقرآن، هو الذي تأخّر إلى رأس الأربعين، فحينها انفجرت
أنوار الأزل، من مشكاة النّبوّة الذّاتيّة، بل إنّ الرّسالة هي الأخرى متقدّمة
عندنا بدليل : (وإذ أخذ الله ميثاق النبيئين لما أتيناكم
من كتاب وحــكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتومنن به ولتنصرنه) ولا ريب أنّ العهد قد وفي، ولا يكون رسولا
إلّا ومعه كتاب من الله تعالى .[28]
وإنّ في
قوله تعالى ( ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) دلالة
واضحة على أنّ القرآن الكريم كان مكنونا فيه من قبل البعثة، فقيل له لاتعجل
بالقرآن الذي عندك، حتّى يتناسب مع علّة الحكمة في التّشريع، ومثلها آية ( لا تحرّك به
لسانك لتعجل به) .
وكذا في
قوله تعالى : ( الرّحمن علّم القرآن خلق الإنسان علّمه البيان) فياترى
لمن علّم القرآن، من قبل خلق الإنسان وتعليمه البيان، إن لم يكن للحقيقة
المحمّديّة .
و لقد أكّد عليه الشيخ
الأكبر في فتوحاته : "فإنّ
عندنا من طريق الكشف أنّ الفرقان حصل عند رسول الله e قرآنا
مجملا غير مفصل الآيات و السّور، ولهذا كان e يعجل به
حين كان ينزل عليه به جبريل بالفرقان، فقيل له (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) الذي عندك فتلقيه مجملا فلا يفهم عنك (من قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) فرقانا مفصلا، (وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) بتفصيل ما أجملته فيّ من المعاني.
وقد أشار من
باب الأسرار فقال : (إِنَّا
أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ) ولم يقل بعضه،
ثم قال: (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ
حَكِيمٍ) وهذا هو وحي الفرقان وهو الوجه
الآخر من الوجهين.
ويقول الإمام
الكتاني قدّس الله سرّه:
الملقى عليه في تلك المهامه {وإنّك لتلقى
القرءان من لدن حكيم عليم} بلطيفة الإسم
الجامع الحكيم مع هو وهو، ثم بعدُ في عالم الملك صار ينزل بحسب وإرداته، بواسطة
مظهر نسخة جزئياته {نزل به الروح الأمين} في
عالم الفرق {على قلبك} من سرادقات لب لبّك. وينشد على لسانه في عالم الشهادة قول الفارضي:
ياأخت سعد من حبيب جئتني
|
برسالة أديتها بتلطف
|
فسمعتُ مالم تسمعي ونظرتُ ما
|
لم تنظري وعرفتُ ما لم تعرف
|
على أنه في الحقيقة ليس غيرك بل هو قرءان الجمال المطلق في لوح الهوية محفوظ {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين}. لكن {لو أنزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مومنين}.[29]
خلوت به في حـضرة لم يكن بها
|
كليم ولا روح ولا سر خلتي
|
ولم يكن جبريل هناك ولا أخو
|
ه ميكائل يبدو ولا سرضمتي
|
فأقرأه الرحمن في غيب غيبه
|
إليه به منه على حين قربتي
|
ويقول الشيخ نجم الدّين كبرى قدّس الله سرّه :
إعلم أنّ لكلّ شيء
ملك وملكوت، والقرآن أشرف الأشياء فله أيضا ملك وملكوت، فأمّا ملكه فهو الاحكام
والشرائع الظاهرة، وأمّا ملكوته فهو الاسرار الالهية والحقائق اللاهوتيّة، ولكل
واحد من الملك والملكوت مدركات يدرك بها.
فلمّا كانت الوجدانيات والذوقيات لا تسعها ألسنة العبارات، لانها
منقطع الإشارات، قال تعالى : ( لاتحرّك به
لسانك لتعجل به) يشير إلى عدم
تعبيره بلسان الظاهر عن أسرار الباطن والحقائق الآبية عن تصرف العبارات فيها، وإنّ
مظهره الجامع e جامع
بين ملك القرآن وملكوته، e يتبع
بظاهره ملكه وبباطنه ملكوته.[30]
ويقول الشيخ
إسماعيل حقي الخلوتي قدّس الله سرّه :
وعن بعض
العارفين أنه قال في ( لاتحرّك به لسانك
لتعجل به) كأنه تعالى يقول خذه عن
جبريل كأنك ما علمته الا منه ولا تسابق بما عندك منا من غير واسطة.
وأكابر
المحققين يسمون هذه الجهة بالوجه الخاص، ولما كان نبينا e أكمل
الخلق فى جهة الوحدة، كان يأخذ عن الله بلا واسطة، فإذا جاءه الكلام من جهة
الوسائط، كان يبادر إليه بالنطق به لعلمه بمعناه بسبب تلقيه أياه من حيث اللّاواسطة
.
فعرف الحق
نبينا e أنّ
القرآن وإن أخذته عنا من حيث معناه بلا واسطة، فإنّ إنزالنا إياه مرة أخرى من جهة
الوسائط، يتضمن فوائد زائدة، مراعاة إفهام المخاطبين به .[31]
ويقول الإمام الشّعراني قدّس الله سرّه : أنزل عليه e القرآن أوّلا من غير علم جبريلu، ثمّ أنزل عليه به جبريل مرّة أخرى ولذلك
قال تعالى : (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه)
أي : لاتعجل بتلاوة ماعندك منه قبل أن تسمعه من جبريل، بل اسمعه من جبريل وأنت
منصت إليه كأنّك ماسمعته قط، وقد عملت التّلامذة الموقنون بذلك مع أستاذيهم .[32]
فصل :
وأمّا
سيّدنا جبريلu فمهمّته الأصليّة هي خدمة
الجناب الشّريف، ولتتستّر الحقيقة المحمّديّة خلف روحانيّته، ليقول المحجوبون قد
تنزّل عليه ملك فعلّمه، إذا فهو صادق في دعوته، وما علم أولئكم أنّ ساداتنا الأنبياء
أفضل من الأملاك !.
وأمّا
قوله لسيّد الوجود e : » إقرأ « فهي ليست من قبيل الأمر،
وحشاه e أن يأمره من دونه، ولكن
هي من قبيل الطلب، لينتفع أهل الملإ الأعلى والأسفل بسطوع شمس القرآن .
وقوله : » إقرأ «
إشارة إلى أنّ القرآن معلوم عنده e، وإلّا فما يقرأ ؟!، وهل تقول لأحد من دون
صحيفة عنده ولا شيء يحفظه إقرأ ؟!
وفي هذا يقول مولاي عبد
العزيز الدبّاغ قدس الله سرّه : » إقرأ « معناه بلغ الكلام القديم بالحادث، فإن جميع القرآن أنزل على النبي e في
ذلك الموضع وهو المراد بقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) وإنما كان يطلب منه أن يبلغ المعاني القديمة والمكالمة الأزلية
الخاصة لهe إذ
ذاك، فقال له : «ما أنا بقارىء»، أي إني لا أطيق أن أبلغ الكلام القديم والقول الأزلي، باللّسان
الحادث.[33]
وقال
مولاي صلاح الدّين القوصي قدّس الله سرّه : أنّ معنى » إقرأ « أي إبدأ من قوله تعالى :
( إقرأ باسم ربّك) ولهذا
بدأ القرآن بها، ولم يحذف كلمة » إقرأ « على أنها من كلام الملك .[34] كما قال
في ديوانه " الإمام المبين " :
فَهُوَ "إمامُ
الخَلْقِ مُبينٌ "
|
فيهِ عُلومُ رسولِ
اللَّهْ
|
حتَّى لمَّا قالَ لَهُ
" اقرأ " ..
|
ماذا قرأَ رسولُ اللهْ !!
|
هَلْ أعْطاهُ كِتاباً ..
تَقرَأُ
|
مِنْهُ عُيونُ رسولِ
اللهْ !!
|
كيفَ إذاً يقرأُ إلاَّ
مِنْ
|
روحِ وَ قلبِ رسولِ
اللَّهْ !!
|
قالَ : اقرأْ ..
فتفَجَّرَ نوراً
|
فالقُرآنُ .. رسولُ
اللَّهْ
|
أنوارٌ فى الرُّوحِ .. وَ
تُتْلَى
|
بلِسَانٍ لرسولِ اللَّهْ
|
وأمّا سرّ تلك الضّممّات
فقد قال فيها مولاي عبد العزيز الدبّاغ قدس الله سرّه : الضّمة الأولى ليتوسل به إلى الله Y في
حصول الرضا له الأبدي الذي لا سخط بعده، والضمة الثانية ليدخل أي جبريل في جاه
النبي e ويلوذ
بحماه الشريف، والضمة الثالثة ليكون أي جبريل من أمته الشّريفة . اهـ من الإبريز .
وقال مولاي القوصي قدس الله
سرّه : أنّ سرّ ذلك الغطّ، إنّما
كان لتقليب ومزج الظاهر مع الباطن، حتّى يخرج لنا القرآن اللّاهوتي في قالب
ناسوتي، ولهذا كان e يستأنس بسيّدنا جبريل
الذي كان من جنس باطنه الرّوحاني .
ويقول الإمام الكتاني ـ قدّس الله سرّه ـ في
ألفيته الكماليّة :
تمتعت يا جبريل شرفت
ياجبري
|
ل عاينت ياجبريل سرّ الوساطتي
|
تهنئك الأكوان إذ كنت
مفتاح ال
|
لأقفال تشريـع وشاوس حـضرتي
|
وقد جئت لما كان في الغار
عالما
|
وفاجأه الحق المجدد كعبتي
|
فقلت له اقرأ قال ما
أناقارئ
|
لأني قرأت في مكاتب قدرتي
|
قبيل وجود الكون أقرأني
العلا
|
تلقيته منه على حين يقظتي
|
ولكن وعته الروح مني
فأودعت
|
ه في مضمر الكتمان حشو
لطيفتي
|
ولم يزل القرآن مكتتما به
|
إلى أن دنا إخراج تلك
الخبيئتي
|
فجئت لنـشر العلم في كل
أصقاع
|
الممالك في استدعاء عود
القراءتي
|
وإذ كان سر الذات ليست تطيـ
|
قه العوالم لم يقرأ لمنح
ضمتي
|
فغططته بالضم حتى جهدته
|
لتستدر الأمداد من جهد
ضغطتي
|
فدرت لك الأمداد من ذاته
التي
|
غدت رحمة للعلمين وسدرتي
|
فعاودته الإقراء حتى تضمه
|
وتمتص أنوار العلوم
الخفيتي
|
ولم تمتنع بالضمتين لما
شربت من
|
بحره الطامي وتشريـف
صحبتي
|
إستدراك :
ويقول الإمام الكتاني قدّس الله سرّه: فإن قلت: ما معنى: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) وقوله تعالى : (وإن كنت من قبله لمن الغافلين) ؟ .
قلت: لك أن
تقول: إنّ هذا النفي منصوب على الكينونة الماضوية، وهي عبارة عن حال عدمه، إذ له بداية، وهذا يرشدك له
قوله: "كنتَ" الدالة على الماضي.
و الآية خرجت
في معرض الامتنان، فكأنّ الحق يقول: إنك في حال عدمك لا تدري الكتاب ولا الإيمان، واليوم
أنت تدري الكتاب والإيمان، بل أنت الكتاب والإيمان، بل أنت مبنى الفواتح ومعناها،
ومكنون باطن الأم ومغناها، وأنت الجامع لما بين الباء والسين (وكل شيء أحصيناه في إمام مـبين)، لكن: (لو نزلناه على بعض الأعجمين
فقرأه عليهم ما كانوا به مومنين) كما كان
قبلها بشاهد: (وإنك لتلقى القرآن
من لدن حكيم عليم) [35].
تيسير الكلام الأزلي
وإنّ
القرآن العظيم على حقيقته اللّاهوتيّة، لايتيسّر إلى بواسطة مناسبة، تكون كالبرزخ
بين الأزل والأبد، وليس إلّا النّور المحمّدي، الذي لولاه ما كان في الوجود إيجاد
ولا إمداد، وهذا التيسير هو المعبر عنه بقوله تعالى (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ
بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا) .
ومعنى
التّيسير تنزل القرآن من مستواه المطلق، المجرد عن الحروف والأصوات، إلى مستوى
التّلقي بالحواس البشريّة، إذ أنّ التّنزّل في القرآن الكريم هو تنزّل في الطور
والمستوى، وليس تنزل في المكان فحسب، كما تقول للعالم النّحرير إن أراد أن يعلّم
الصّبيان : تنزّل إليهم في المستوى،
ليتقبّلوا منك .
وهو على
التّدريج بحسب أطواره الثلاثة : أولا تيسير أسراره الذّاتيّة إلى المقربين، ثمّ
تيسير أنواره الصّفاتيّة إلى الأبرار، ثمّ تيسير آثاره الفعليّة إلى العوام .
أو قل
تيسير حقيقته الحاليّة إلى العارفين، ثمّ تيسير طريقته الفعليّة إلى المريدين، ثمّ
تيسير شريعته القوليّة إلى العاميين .
وإنّ هذا
التّيسير حقيقة يقينيّة لاريب فيه، فلولا برزخية النّور المحمّدي السّاريّة في
الكتاب المبين، المشار إليه بقوله تعالى : ( واتّبعوا
النّور الذي أنزل معه ) لما قرئ ولا فهم ولاعمل أحد بالقرآن الكريم،
ولعلّه هذا هو معنى قول سيدنا عبد الله بن عمرt : "أوتينا الإيمان قبل القرآن، وأنتم أوتيتم القرآن قبل
الإيمان، فأنتم تنثرونه نثر الدقل "[36]
ونحن
كعوام يتضّح لنا هذا في تيسير القرآن بلسانه العربي المبين، لقوله تعالى : (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ
مُبِينٍ) ولكنّنا حينما نقرأ قوله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ) نظنّ أنّه لا مزيّة لهe في هذا التّيسير، ولكن
ساداتنا الرّسل ماهم إلّا ورثة له في كلّ طور من الأطوار، وتبقى الغاية المصدريّة
له وحده e .
وإنّ من لطائف التّيسير
أنّه : أهّلك لمناجاة الحق تعالى عن قرب، كما قال e: «إذا أحب
أحدُكم أن يُحَدِّثَ ربَّه فليقرأْ القرآنَ«[37]. بل ولقد
أهّلك لأن تقرأ كلام الله تعالى بصيغة المتكلّم، فتقول ( إنّني أنا الله ) وتقول ( ياعبادي) ..، فهذا لا يكون إلّا
لمن فنيت أنيّاتهم، فبقيت بالله، وأنّى لنا بذلك لولا التّيسير النّبوي .
تتلو
أنا هو وقل كالببّبغا
|
لَمَن
تلا القرآن هكذا بغا
|
إنّ
التّكلم على اللّسان
|
هو
لأهل الحقّ والعيان
|
الأحرف السّبعة
وإنّ على
الخائض في أعماق القرآن العظيم، ألّا يغفل جانب القابليّة المحمّديّة، التي كانت
واسطة لنا في تنزّله وتيسيره وفتوحه، فكما أنّ أسباب النّزول مهمّة في التّفسير،
فكذلك معرفة أحوال التّنزيل مهمّة في التأويل .
وإلى هذا
يشير حديث : « أنزل القرآن
على سبعة أحرف «[38]والذي
حقّقه مولاي الدّبّاغ ـ قدس الله سرّه ـ كشفا، على أنّ هذه السّبعة هي القوابل
التي تنزّل عليها القرآن الكريم، وهي " النبوّة والرّسالة والرّوح والآدميّة
والقبض والبسط والعلم " وأنّ كلّ آية لابدّ وأن تتنزّل معها صبغة إحدى
الأحرف، ولعله ماتشير إليه آية ( واتّبعوا
النّور الذي أنزل معه ) وهي
كالتّالي :
فحرف النبوة : علامته أن
تكون الآية آمرة بالصبر، ودالة على الحق، ومزهدة في الدنيا وشهواتها، لأن النبوة
طبعها الميل إلى الحق والقول به والدلالة عليه.
وحرف الرسالة : علامته أن تكون الآية
متعرضة للدار الآخرة ودرجاتها ومقامات أهلها وذكر ثوابهم وما شاكل ذلك.
وحرف الآدمية : يرجع حاصله
إلى النور الذي وضعه الله في ذات بني آدم فصارت الآيات تنزل عليه ولا تخلو آية منها
إلا وهو فيها؛ إذ لغات القرآن آدمية.
وحرف الروح : علامته أن
تكون الآية متعلقة بالحق سبحانه وبعلي صفاته ولا ذكر لمخلوق فيها، لأن الروح في
مشاهدة الحق دائما، فإذا نزلت الآية على هذا الوصف كان المصاحب لها نور الروح.
وحرف العلم : علامته أن
تكون الآية متعرضة لأحوال الخلق الماضين كالإخبار عن عاد وثمود وقوم نوح وهود وصالح
ونحو ذلك .
وحرف القبض: علامته أن
تكون الآية تتكلم مع أهل الكفر والظلام فتراه في الآية يدعو عليهم مرة ويتوعدهم
أخرى .
وحرف البسط: علامته أن ترى
الآية متعرضة لنعم الله تعالى على الخلق وتعدادها، فإذا التفت e إلى
نعمه تعالى على خلقه وقع له بسط، فخرجت الآية من مقام البسط.
فصل
:
وإنّ
لهذه الأحرف وجهة أخرى مقاربة للأولى، وهي أنّه للحضرة المحمّديّة سبعة مدارك
" السّرّ والرّوح والقلب والنّفس والعقل والجسد واللّسان " وإنّ القرآن
حالة نزوله على الجناب الشّريف، لابدّ وأن يمر على هذه المدارك بالتّرتيب، فما من
آية تنزل إلّا ومعها صبغة الأحرف ـ المدارك ـ كلّها .
فكلّ
مدرك منها يمد الأنوار الفرقانيّة لما يقابله من الخلق، وييسرها لقبول الأسرار
القرآنيّة : فلسانه الشّريف يُمدّ الألسن بالتّلاوة، وجسده الشّريف يُمدّ الذوات
بالعبادة، ونفسه الكريمة تمدّ النّفوس بالأخلاق، وعقله الأكبر يمدّ العقول
بالعلوم، وقلبه المقدّس يمدّ القلوب بالعرفان والوجدان، وروحه الأعظم يمدّ الأرواح
بالتّحققات اللّاهوتيّة، وسرّه الأمّي يمدّ الرقائق بالصّبغة الذّاتيّة .
فمن هنا
ندرك أنّ القرآن سرّ أحدي يكسوه نور أحمدي، أو قل هو صفة إلهيّة بصبغة نبويّة، فلا
بدّ علينا من المرور من بابه، والتّمرّغ بأعتاب جنابه، لنرقى به في الدّارين، كما
قال مولانا القوصي t: "كل من يقرأ القرآن فهو يتلوه بأنفاس سيدنا محمد e "[39]
تَنزّل
النُّورُ مع الفرقانِ
|
يَهدي
إلى بطائِنِ القرآنِ
|
فباتَ
في حُروفِهِ يَسيرُ
|
وظلّ
عن آياتِهِ يُنِيرُ
|
النّون الجامع
وإنّ
هناك ثلاثي دقيق لابدّ أن ندركه، وهو علاقة الكتاب باللّوح المحفوظ، وعلاقة اللّوح
بالحقيقة المحمّديّة، فلطالما خبط النّاس فيها خبط عشواء .
فقد قال
تعالى: ( إنّه لقرءان مجيد في لوح محفوظ) ولاشكّ
أنّ القرآن المرقوم في اللّوح المحفوظ، لم يحط بكلّ شؤونه وبطونه، لأنّ مهمّة
اللّوح محصورة محدودة.
وأمّا
الحقيقة المحمّديّة فإنّها هي المستودع لتزّلات القرآن العظيم، المعبر عنه بـ ( وكلّ شيء
أحصيناه في إمام مبين ) وإنّ نسبة ما استوعبه اللّوح بالنّسبة إلى
قواميس الحقيقة المحمّديّة، كالقطرة في البحر المطمطم، ولله درّ البردة إذ تصدح :
فإنّ من جودك الدّنيا وضرّتها
|
ومن علومك علم اللّوح والقلم
|
إذا
فالحقيقة المحمّديّة هي اللّوح الأكبر حقيقة، وهكذا هو الشّأن في كلّ أمر ذي
خصوصيّة، فإنّ العارفين يرجعونه إلى محتده e، فيلقبونه e به مع التّأصيل ، فيقولون
: العقل الأوّل، والقلم الاعلى، وآدم الأكبر، وروح الأرواح ..
ولقد قال
أهل المعرفة أنّ النّون المشار إليه في آية ( ن والقلم وما
يسطرون) هو الباطن المحمّدي المكنون، الذي ينبع منه
القرآن العظيم، ثم يستمد منه القلم، والقلم يملي على اللّوح المحفوظ، ومن هنا شاع
عندهم لقب النّون على الحقيقة المحمّديّة، وذلك باعتبار إجماله e للقرآن المجيد في باطنه .
فما
حواهُ اللّوحُ مِن علومِ
|
وما
سرى بالقلم المكمُومِ
|
وما
رَوَتهُ الكتُبُ المنزلَهْ
|
مِن
كلِمِ الأوامِرِ المؤزّله
|
وما
انْطوى بالقَدَرِ المكنونِ
|
إلّا
كقطرةٍ بقعرِ النّونِ
|
ومن هنا
لقب كذلك بأمّ الكتاب، باعتبار إجماله لشؤون التّجلّي القرآني، وصدوره عنه
للخلائق، وهذا هو معنى قول الشيخ القاشاني t: " أم
الكتاب: هو العقل الأول e "[40].
وقول الشيخ البيطار t : وأم الكتاب هي ذاته تعالى، فمنها استمداد سيدنا محمدe لأنها أصله
وحقيقته ، فهي باطن هوية الذات، وظاهر سيّدنا محمدe بعينه "[41].
إذا فلا
عجب ممّن ينظر إلى اللّوح المحفوظ ويستمد منه، ولكن الأعجب ممّن يستمد من النّون
الأحمدي، ويغوص في أعماقه الكنهيّة.
نقطة الباء
ولقد درج
العارفون على تسميّة الحقيقة المحمّديّة بـ " النّقطة " أو " نقطة
الباء " وذلك باعتبار الجمع والإجمال والتّجريد الذي في النّقطة، وهو ما
خوّلها للدّلالة على الأحديّة الذّاتيّة .
ومن هنا كانت " النّقطة
" جامعة لكلّ معاني الكتاب، كما جاء عن سيّدنا علي u
: ( كلّ ما في الصحف في الكتب
الأربعة، وكل ما في الكتب الأربعة في القرآن العظيم، وكل ما في القرآن العظيم في
فاتحة الكتاب، وكل ما في فاتحة الكتاب في البسملة، وكل ما في البسملة في بائها،
وكل ما في الباء في نقطتها ) .
ولقد كشف
الإمام الجيلي عن هذا السّرّ الخطير في بعض مشاهده فقال : ولقد درجت في بعض معارج الغيب فأشهدني الحق
تعالى صورة النقطة في عالم القدس عنه , فإذا هي على
صورة الحقيقة المحمدية .[42]
وعرّفها
الشيخ الأكبر قدّس الله سرّه : النقطة البائية هي نقطة باء البسملة، والإشارة
إليها في قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ
مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً )،
حيث أنّ مدّ الظّل عبارة عن انبساط النّقطة الوجودية، وتعينها بتعينات الحروف
الإلهية والكونية .
ويقول
قدّس الله سرّه : " الإنسان الكامل : هو عين الأعيان ... لأنّه النّقطة التي
تحت الباء ومحل الفيض "[43].
ولقد
صدر هذا اللّقب عن كثير من العارفين، وإنّما ذلك بحكم الوراثة المحمّديّة، كما حكي
عن سيّدنا عليu قوله : "أنا
نقطة باء بسم الله "، ومثلها عن الإمام الشّبلي قوله : "أنا النّقطة
التي تحت الباء ".
والمغزى
من هذا التّحقيق، أنّ الحقيقة المحمّديّة هي نقطة الأحديّة السّاريّة في القرآن
العظيم، والتي منها فتق الفرقان، وبها رتق القرآن .
أَعْجِّزْ بها
نقطةٌ لم يُفْتَتَقْ رِتْقُها
|
وإنّما نَزَلَتْ
بالوَصْفِ تَرْتَسِمِ
|
فكونُهُ بَونُهُ
وظَهْرُهُ بَطْنُهُ
|
بِذَا وذا هُوَ
في لَبْسٍ وفي كَتَمِ
|
الإعجاز
الذّاتي في القرآن
إنّ القرآن العظيم كما نزل هدى للنّاس، فهو كذلك
المعجزة المحمّديّة الكبرى، التي تصغر دونها كلّ المعجزات السّابقة، لكونه كلام
الله تعالى الذّاتي، المتنزّل على النّبيّ الأمّيe، وهل بعد هذا من إعجاز أو
آية أو مقام .
وتبصّر بقولهe «ما من الأنبياء من نبى إلا وقد أعطى من الآيات ما
مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذى أوتيته وحيا أوحاه الله إلى فأرجو أن أكون
أكثرهم تابعًا
يوم القيامة»[44] وهذا لأنّ معجزته eذاتيّة أمّيّة، ومعجزات سواه صفاتيّة أو آثاريّة، لذا فإنّ
القرآن المجيد، مافيه إعجاز للملحدين فحسب، بل هو بمقامه الذّاتي الأحدي، يتحدّى
حتّى الرّسل والأنبياء والأملاك .
وفي هذا يقول الإمام الدبّاغ قدس الله سرّه: إن معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانت من جنس ذواتهم،
ومعجزة نبينا e كانت من
الحق سبحانه ومن نوره ومشاهدته ومكالمته، وذلك لقوته e ذاتا
وعقلا ونفسا وروحا وسرا، حتى إنه لو أعطيت مشاهدته e لجميع
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يطيقوها، فلذلك قال: «مَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ إِلَّا وَحْيًا يُتْلَى»، يعني أن معجزته ليست من جنس معجزاتهم، ولو كانت معجزاتهم بلغت
من الفخامة والضّخامة بحيث إنه يؤمن بسببها جميع البشر، ومعجزاته e فوق
ذلك كله لأنها من الحق سبحانه لا منه.
ونحن نتكلّم هنا عن القرآن
المجيد، كصبغة ذاتيّة خاصّة بالحقيقة المحمّديّة، لا كنظرة العوام القاصرة، المفرّقة
بين الكتاب وبين صاحبه e، ويظنّون أنّه مجرّد دستور للتّشريع فقط،
ماله بطون ولاله تجلّيات ولا أطوار..، كلا لا !!
فمن هذا
المنطلق الإعجازي كان القرآن شرفا لأمّته e، وذلك بحكم التّبعيّة له كما جاء : ( وإنّه لذكر
لك ولقومك) أي شرف لك ولأمّتك، وهذا هو الشّرف الذي
تغبطنا عليه الرّسل وأممهم .
وإنّ كلّ
ما جاء في القرآن المجيد من معجزات مع كثرتها، فهي دون هذه المعجزة الذّاتية
الكبرى، ولكنّ الكثير لايعرف معنى هذا النوع من الإعجاز في القرآن، والذي هو أصل
كلّ الإعجازات، ولم يدروا أنّ الإعجاز في الكتاب على ثلاث:
·
إعجاز
ذاتي: على حسب طوره الحقّاني، المتنزّل على الحقيقة المحمّديّة، وهذا هو أكبر
وأعظم وأخطر إعجاز على الإطلاق .
·
الإعجاز
الصّفاتي: على حسب طوره النّوراني، المتنزّل على الرّوح الأعظم، وهذا المضرب
لايهتدي إليه إلّا العارفون .
·
الإعجاز
الآثاري: على حسب طوره الرّسومي، المتنزّل على الجسد الشّريف، وهذا هو الذي يخوض
فيه عامة النّاس .
مع العلم
أنّ هذه الأطوار الثّلاثة للإعجاز، لا تتجلّى إلاّ بواسطة النّور المحمّدي، حيث
أنّها عينه لاغيره، فهوe كلّه بكلّه معجزة للعالمين، بمقتضى تحققه بذلك الإعجاز الذّاتي،
المتنزّل على قدره ومستواه، ولذا فإنّ كلّ مافي القرآن من كمال، فهو في الحقيقة
المحمّديّة على التّمام .
تنبيه
وبهذا
ندرك حمق هؤلاء المتشّدقين بأنّه e لم يكن يدري هذا "الإعجاز العلمي"، والذي هو من الطّور
الثّالث للإعجاز القرآني، لتعلّقه بأمور دنيويّة محض !!
وماذلك
إلّا لاعتقادهم هذه الفجوة بينه e وبين الكتاب الذي أنزل معه، وما علموا أنّ القرآن إنّما هو كتابه
الخاص، ومعجزته الشّخصيّة، التي تنزّلت على قدر قابليته، وستبقى مابقيت نبوّته،
وأنّه لازال إلى الآن يتحدّى بالقرآن، وأنّى لنا بهذه الضّروب من الإعجاز القرآني،
لولا الواسطة النّبويّة ، الميسّرة له بلسان القال والحال والمقام .
مشكاة
القرآن
من
المعلوم أنّ الكتاب مصدر النّفحات للورى، بما أودع الله فيه من أنوار وأسرار، كما
قال تعالى : (وَنُنَزِّلُ
مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) وقال Y : (ولقد جئناهم
بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون )..
ولكنّ
القرآن ماتنزّل ولاتيسّر لنا إلّا بواسطة النّبوّة، فنحن لا نتوصّل إلى موارده
إلّا من بابه e، وإلى هذا تشير آية ( قد جاءكم من
الله نور وكتاب مبين) فقدّم النّور على الكتاب، ليقول لنا لن تهتدوا
إلى كلامي الأزلي، إلّا بالنّور المحمّدي.
و هذا التّقديم هو ما دلّ
عليه حديث سيدنا ابن عمر t
: " أوتينا الإيمان قبل القرآن ، وأنتم أوتيتم
القرآن قبل الإيمان ، فأنتم تنثرونه نثر الدقل " [45]وكأنّه يعني بالإيمان هنا ما كان يسري من
مشكاة النّبوة إلى قلوب ساداتنا الصّحابة، من النّور الذي يهدي إلى القرآن العظيم
.
فكما أنّ
القرآن لا يهدي وحده في التّشريع، بل لابدّ من السّنة معه للتّبين، كذلك إنّ
القرآن لايمدنا بشيء من موارده الأخرى، من نور وهدى وشفاء وأجر .. إلاّ بواسطة
النّور الذّاتي، والسّر السّاري في الأسماء والصّفات .
وكما
قالوا أنّ القرآن هو الكتاب الصّامت، وحضرة الرّسول e هو الكتاب النّاطق، كذلك
فإن كان القرآن هو النّور والهادي والفرقان..، فإنّ حضرة النّبيe هو مشكاة تلك الأنوار..
وهكذا .
ألا وإنّ
القرآن في تأثيره الإيماني النّوراني، كغيره من العبادات التي أتى بها e، فهي من دون وساطته
لاتؤتي أكلها، وانظر إلى قوله e: » إنّ
بعدي من أمتي قومًا يقرءون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدّين كما يخرج
السّهم من الرّميّة ثمّ لا يعودون إليه شر الخلق والخليقة «[46] .
إذا
فثمرة الكتاب لاتؤتى إلّا لمن آمن ثمّ تعلّق بالجناب الشّريف، فهناك يثمر لنا
الكتاب، لأنّه e مشكاة الإيمان السّاري فيه، مصداقا لقوله تعالى: ( قل هو أذن
خير لكم، يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) .
وهذا
ماتعطيه الدّلالة في آية : (فَإِذَا قَرَأْتَ
الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) أي إذا قرأت القرآن
لأمّتك، فاستعذ بالنّيابة عنهم بالله من الشيطان، ولهذا قال ( قرأت) ولم يقل قرأتم،
وقال بعدها ( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) .
وهو
ماتشير إليه آية ( آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه ) فالذي
عندنا أنّه هناك وقف معنوي هنا، ثم تأتي ( والمومنون كلّ
آمن بالله ..) لأنّ إيمانه لا كإيمان المؤمنين ليقرن بهم،
والدّلالة فيها أنّه حينما آمن أوّلا آمن إيمان ذاتيّا عينيّا، ثمّ سقى أمّته منه،
فاهتدت ولم تضل كالأمم السّابقة، ويؤكد هذا الملمح حديث الإسراء حينما أتي بإناءين
.. فقال سيّدنا جبريلu : »الحمد لله
الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر لغوت أمّتك « ولم يقل لغويت .
ونعجب
الآن ممّن يدّعون التّمسك بالكتاب، ولا تعلّق لهم بالجناب النّبوي، فنقول لهم
وأنّى لكم ياهؤلاء بذلك ؟! ومن أتاكم بالكتاب الأعظم ؟، فكما أنتم محتاجون إليه في
نزول القرآن وتيسيره للقراءة، كذلكم أنتم محتاجون إليه في فتح باب الهداية والفهم
والتحقق به، ولقد نبّه على هذا فقال : » يوشك أن
يقعد الرجل منكم متكئا على أريكته يحدث بحديث من حديثى فيقول بيننا وبينكم كتاب
الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا وإن ما
حرم رسول الله مثل ما حرم الله «[47] .
تنجيم
النّزول والتّنزيل
رغم قوله تعالى ردّا على الملحدين (وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ
لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) وقوله Y : (وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ
لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا) إلّا أنّ هناك لبس عند بعض المسلمين، فلم
يقدروا الجناب النّبوي حق قدره، وماذلك إلّا لخلفيتهم القاصرة عن الوحي !
والتّحقيق فيها أنّ القرآن العظيم كان مجملا فيه
e قبل البعثة، وأنّ حكمة التّنجيم في نزول الوحي ترجع إلى ثلاثة
أسباب متعلّقة بنا نحن لابه، وهي :
· تخفيفا على
النّاس من أن تصدمهم الأوامر والتّكاليف دفعة واحدة، بعد الحريّة التي كانت في
الجاهليّة، عناية بالأمّة المحمّديّة .
· مراعاة لحكمة
التّشريع، فنزل مناسبا لأسباب معيّنة، ومرتبطا بأحوال معهودة، ليتيسّر فهمه والعمل
به، طبقا لحياة النّاس، وتلقينا للحجج الواقعيّة (وَلا يَأْتُونَكَ
بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) ومن هنا نشأ علم " أسباب النّزول".
· مراعاة لتدرج
السّقي بالقرآن العظيم، علما أنّ القرآن أقوال وأحوال، وقد تلقّى ساداتنا الأصحاب
عنه e كليهما، وسقي الحال أشدّ من تلقي الأقوال، فلهذا كان يتدرج بهم e، كما قال سيّدنا ابن عمر t : " أوتينا
الإيمان قبل القرآن ، وأنتم أوتيتم القرآن قبل الإيمان ، فأنتم تنثرونه نثر الدقل " [48] وقول سيّدنا ابن مسعود t: " كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى
يعرف معانيهن والعمل بهن [49]"
فتلقّي الآيات العشر لم يكن يشق عليهم، ولكن
السّقي هو الشّاق .
ويبقى للقرآن تنزّلات بعد ختم نزوله، أي تنزلات
في معانيه المتجدّدة على الإطلاق، وهذا تحت ظل النّبوّة الأبديّة، المؤيّدة
بالسّلطة الرّوحيّة، والتي لم تبتدء بالرّسالة حتّى تختتم بها، فالذي قال : ( كنت نبيّا وآدم بين الرّوح والجسد) فإنّه سيبقى نبيّا بإمداداته التي تترى على
الورى، ولكن أكثر النّاس لايشعرون .
فإنّ هذه التنزّلات والمنازلات القرآنيّة، ستبقى
بمقتضى سعة القرآن الأزلي الإجمالي، ولزوم النّبوّة الأبديّة التّفصيليّة، فالأمر
المطلق يستوجب التّفصيل الأبدي، فلو انقطعت هذه الوساطة المحمّديّة للخلق، لرفع
عنهم سرّ القرآن العظيم، وما بقي منه إلّا الرّسم الذي لايتجاوز حناجرهم .
إذا فكلّ فهم أو تأويل أو إيمان يتجدّد من
القرآن، لأحد من هذه الأمّة المحمّديّة، فإنّما هو من سقي الواردات النّبويّة، عرف
ذلك من عرف، وجهله من جهل .
التّحقق بالصّبغة القرآنيّة
وإنّ القرآن
المجيد كغيره من الصّفات الإلهيّة، يجوز للخلق أن يتحقّقوا بها، وإليها الإشارة
بحديث: »يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ، وَارْتَقِ، وَرَتِّلْ، كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدُّنْيَا، فإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ
آيةٍ تَقْرَؤُهَا»[50]. ويقول
العارفون أنّ القراءة هنا إشارة إلى التّحقق، وإلّا لكان الحديث غريبا ! كيف يكون
كلّ من قرأ القرآن في أعلى مرتبة في الجنّة ؟! [51]
ولمّا
كان القرآن الكريم هو عينه، كان ولابدّ على من أراد أن يتحقّق به، أن يتحقق أوّلا
بالأوصاف المحمّديّة، ومن ثمّ يتأهّل للخلعة القرآنيّة .
وهذا
مايعطيه مفهوم الخلف لحديث «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَقَدِ اسْتَدْرَجَ
النُّبُوَّةَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لا يُوحى إِلَيْه [52]«أي : ومن إستدرج النّبوّة بين جنبيه بأن تحقّق
بالأوصاف النّبويّة، سيتحقّق بالقرآن الكريم، وينطبق عليه مدلول أثر : " كان
خلقه القرآن" والتّخلق هنا هو التّحقق عند القوم .
إذا فكلّ
مايروى عن العارفين من الفتوحات القرآنيّة، إنّما هو من هذا القبيل، كما حكي عن سيدنا الامام علي u : (لو
تكلمت لكم في تفسير سورة الفاتحة لحمّلت لكم منها سبعين وقراً) .[53]
وقصّة مولانا جعفر الصّادق u حينما سألوه عن حالة لحقَته في
الصلاة حتى خرّ مغشيّاً عليه ، فقال : " ما زلت أرددت الآية على قلبي حتى
سمعتها من المتكلم بها ، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته " ثمّ قال: " والله لقد تجلّى الله تعالى لخلقه في
كلامه ولكن لا يشعرون" .[54]
وحكي عن الإمام أبي يزيد البسطامي قدّس الله
سرّه أنه ما مات حتى استظهر القرآن .[55]وكما حكى
ذلك الإمام ابن عربي عن نفسه في فتوحاته، والأمير عبد القادر كذلك في مواقفه .
وقول الشيخ الأكبر: ومنهم من قال : أنه يقرأ الكتب المنـزلة والصحف وكل كلام
ظهر من العالم بلسان واحد .
وقوله قدس الله
سرّه :
أنا القرآن و السبع المثاني
|
و روح الروح لا روح
الأواني
|
فؤادي عند معلومي مقيم
|
يشاهده و عندكم لساني
|
وحكي عن الشيخ محمّد البكري أنه قال: بينما أنا طالع إلى الجامع إذ
نوديت في سري يا أبا الحسن. أما القرآن والحديث فإلينا، وأما غيره فإليك، فمن ذلك
العهد ما طالعت لإملاء عليهما، فلي على ذلك تسع وثلاثون سنة، وإنما اجيء إلى محل
الالقاء ولا أدري على لساني، فيجري الله تعالى عليه نحو ما تسمعونه .
ويقول الإمام الشّعراني قدس
سرّه: قد استخرج الشيخ أفضل الدين من سورة الفاتحة مائتى ألف علم ونيفا وأربعين
ألف علم وذُكرت منها فى كتابي ’تنبيه الأغبياء‘ قطرة من بحر علوم الأولياء، ثلاثة
آلاف علم .
وقال: أنّ شيخه عليّا الخواص أخبره أنّ الشيخ
إبراهيم المتبولي أخرج من سورة الفاتحة مائة ألف علم وسبعة وأربعون ألف علم
وتسعمائة وتسعة وتسعون علم .
وقال سمعت سيدي علياً الخواص أيضاً يقول : لا يكمل مقام
العالم عندنا حتى يصير يستخرج جميع أحكام القرآن وآدابه من سورة الفاتحة، ثم يترقى
من ذلك حتى يصير يخرج أحكام القرآن كله وأحكام الشريعة وجميع أقوال المجتهدين
ومقلديهم إلى يوم القيامة من أي حرف شاء من حروف الهجاء، ثم يترقى إلى ما هو أبلغ
من ذلك، قال : وهذا هو العالم الكامل عندنا. [56]
وقد تكلّم الإمام
البكري قدّس الله سرّه على بعض علوم البسملة في سنين بكرة كل يوم في الأشهر
الثلاثة منه، وقال في بعض مجالسه: لو أردت التكلم على ذلك العمر كله لم يفِ"[57]
بل إنّ
من نفائس التّحقق بالقرآن الكريم، ما حكي من موافقات سيّدنا عمرt للقرآن من قبل نزوله،
وماذلك إلّا لشدّة تعلّقه بالحبيب حتى كان قلبه كالمرآة له، تنعكس فيها أسرار
القرآن المكنون في الحضرة النّبويّة من قبل نزولها، فيترجمها اللّسان العمري
بالنيّابة عن اللّسان المحمّدي .
ومثل هذا
حكي عن سيّدنا سعد بن معاذt أنّه لما حدثت مصيبة
الإفك، قال سبحانك هذا بهتان عظيم، فنزلت بعد ذلك آية في آيات التبرءة.
رفع القرآن
كتب الله تعالى على كلّ شيء أن يعود إلى عالمه، فكما ترجع الأرواح
إلى عالم الأمر، ورجع النّور المحمّدي إلى الرّفيق الأعلى، كذلك سيرفع القرآن إلى
مستودعه الأصيل، كما جاء بأنّه في آخر الزّمان سيرفع ولا يفنى مع الدّنيا.
وإنّ حضرة القرآن الأصليّة التي يرفع لها، هي الحقيقة المحمّديّة،
التي هو مشربها الخاص، لأنّ القرآن هو سرّ النّبوّة، الذي تجلّت به الذّات على
الحقيقة المحمّديّة، فكأن الله تعالى حينما تجلّى بكلامه، تجلّى به ببرزخيّة
القابليّة النّبويّة، وهذا لايعني أنّ الكلام الازلي محدثا، ولكن التّجلّي هو
الحديث، كما جاء في البردة:
آيات حقّ من الرّحمن محدثة
|
قديمة صفة الموصوف بالقدم
|
وهذا الرّفع هو المعبر عنه بورود القرآن في حديث« إنّي تارِكٌ فِيكُم الثَّقَلَينِ .. لنْ يَتَفَرَّقا حتّى
يَرِدا عليّ الحَوضَ..»[58].
وهناك ستنجلي حقيقة
القرآن بلسان الحقيقة المحمّديّة، المترجم للكلام الأزلي .
وهناك سنقرأ القرآن حقيقة، وسنطلع على أسراره عيانا، وسنخوض في بطونه الذّاتيّة، من
باب الوسيلة الأمّيّة، فكما أنّه في حضرة الكثيب ستنجلي لنا الذّات كفاحا، وستنجلي
الحقيقة المحمّديّة صرفا، كذلك سينجلي لنا القرآن العظيم مباشرة، وهذا أعظم نعيم
الجنّة .
ويومئذ لا كتاب يظهر سوى القرآن العظيم، لأنّه هو الكتاب الأصلي، وكلّ
الكتب مدمجة فيه، كما أنه لانبوّة ستسيطر يومئذ سوى النّبوّة الأحمديّة، لأنّه هو
النّبي الحقيقيe، وهل تحتاج
النّاس بعد شروق الشّمس إلى الشّمع، فهوe النّبي الأمّي، وكتابه القرآن الذّاتي المهيمن، وكلّ مَن بالجنان والكثبان، سيدينون بهذا كما
جاء في حديث « .. يبعث بلال على
ناقة فينادي بالأذان وشاهده حقا حقا، حتّى إذا بلغ أشهد أنّ محمدا رسول اللهe شهد بها جميع الخلائق من المؤمنين الأولين
والآخرين.. »[59] وإليه الإشارة بحديث : »كأنّ النّاس لم يسمعوا القرآن حين يتلوه الله عليهم
فى الجنّة« [60].
خلاصة
|
|
حمدًا
لِمن تَجلّى بالفُرقانِ
|
مِن
بَعدِما تَخلّى بالقُرآنِ
|
سُبحانَهُ
مِن صَدَفٍ مَكنُونِ
|
تَغُورُ
فيه سُلطَةُ العُيونِ
|
كأيِّنْ
في الآفاقِ مِن جُيُوبِ
|
تَغِيبُ
في مُجَمّعِ الغُيوبِ
|
فاللّوحُ
ذو الأسرارِ والمعاني
|
مِن
بعضِ غَيضِ فَيْضِهِ الأناني
|
لاريب
فالكنهُ له هَويّهْ
|
والعينُ
في مُهْجتِهِ خَلِيَّهْ
|
لكونِهِ
الذّاتيَّ بالأصالَهْ
|
تَطَرَّزَ
الكتابُ بالجلالَهْ
|
فذلك
المنعُوتُ بالصِّفاتِ
|
هوَ
الّذي تَوارى بالآياتِ
|
مِن
نُونِهِ تَجَلَّتِ الحُروفُ
|
ولم
تَزَلْ بِقَلْبِهِ الرُّفُوفُ
|
فالعِلْمُ ما تَـنْشُرُهُ أقلامُهْ
|
والكنْزُ
ما تَحْـشُرُهُ أرْقامُهْ
|
مَن
يَدْرِي ماحَقِيقَةُ الحقائِقْ
|
وما
يَجِنُّ فِيها مِن دقائِقْ
|
ومَن
دَرى ما الصِّلّةُ العَيْنِيَّهْ
|
بَينَ
الهُويّةِ وذي الأنِيّهْ
|
مَشاهِدٌ
صِرْفِيّةٌ عَجْمَاءُ
|
بِحُجْرَةٍ
يَحُوطُها العَمَاءُ
|
فما
بِتِلكَ الحـضْرَةِ الطّلِيْقَهْ
|
يُقْرَأُ في بُطُونِهِ العَمِيْقَهْ
|
نُقْطَةُ
رَتْقِ الـسِّرِّ بالآزالِ
|
وعَينُ
جَمعِ الجمعِ لِلزّوالِ
|
تُتَرْجِمُ
الكنهَ بِلا كلامِ
|
بَلْ
لا إشارةٍ ولا أرْقامِ
|
بَلْ
لا تَعَلُّمٍ ولا تَوْصِيفِ
|
ولا
تَعَيُّنٍ ولا تَكيِيْفِ
|
يَخْلُو
بِهِ بِحَرمِ التَّفْرِيدِ
|
فليسَ
يُتلى إلّا بالتَّجْرِيدِ
|
فيا
تُرى لإنْ بِهِ تَجلّى
|
لانْمَحَقَ
البَينُ لِذا تَخلّى
|
ألا
فِتِيكَ سُرَّةُ القُرآنِ
|
ضَنائِنٌ
تَكمُنُ في الكِنانِ
|
***
كما
لَها عُلْوٌ لها نُزُولُ
|
فُرقانُها
الرَّحماني لا يَزُولُ
|
يُـشْرِقُ
بالرُّوحِ على الغُيوبِ
|
كِنايَةً
عَن كَنزِهِ المحجُوبِ
|
يَشْهَدُهُ فَوارسُ المعارِجْ
|
لِيَهْتَدُوا
بهِ إلى المَدارِجْ
|
مَهامِهٌ
خَطِيرَةُ السِّيّاحَهْ
|
حَظِيرَةُ
التَّفْسِيرِ بالصَّراحَـهْ
|
تغُوصُ
في قامُوسِهِ البَّصائِرْ
|
وتَقْتَني
ياقُوتَهُ الـسَّرائِرْ
|
يَسْتَرِدُونَ
منهُ كلَّ سِرِّ
|
خَزائنُ
التَّنزِيلِ دُون حَجْرِ
|
ويَدّلي بِنَبإِ الأدْيانِ
|
على
ذَوِي الرُّسُومِ والبَيانِ
|
بِسُوَرٍ
حَدِيثَةٍ مَحْصُورَهْ
|
وضِمْنَها
عَرائِسٌ مَقْصُورَهْ
|
تَرْجَمَها
لِسانُهُ الجِسماني
|
نِيابَةً
عَن سِرّهِ الرَّوحاني
|
تَرفُّقًا
بِنا أُولي الألبابِ
|
وا
أَسَفًا عَلى ذَوي الحِجابِ
|
فَدُونَكَ
النُّورَ بهِ تَبَـصَّرْ
|
تَرقى
إلى الـسِّرِّ الّذي تَـقَصَّرْ
|
وَتُدْرِكَ
المُرادَ بالخِطابِ
|
تَحَقُّقًا
بِصِبغَةِ الكِتابِ
|
هيهاتَ
مِن بَعدِ الفَناءِ فِيهِ
|
سُلُوكُنا والمنتهى إليهِ
|
والسَّبَبُ
الممْدُودُ بالوَلاءِ
|
مِعْراجُنا
إليهِ يا أُوْلاءِ
|
فاسْتمسِكُوا
بِهِمْ لِكي تُجابُوا
|
إنّ
الكتابَ دونَهُم حِجابُ
|
انتهى
هذا
والله ورسوله e أعلم وصلّى الله على سيّدنا مولانا محمّد تَوراةِ قُرآنِ الكُنهِ
، في كِتابٍ مَرقُومٍ ، قبلَ فَجْرِ زُبُرِ الفُرقانِ ،
في رِقٍ مَنشُورٍ ، ما فَرَّطْنا في الكِتابِ
مِن شَيءٍ ،
وكلَّ شيءٍ أحصيناهُ في إمامٍ مُبينٍ .
وعلى آله وصحبه وسلّم .
سبحان
ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون
وسلام
على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[30] روح البيان في تفسير القرآن " بتصرّف
"
[51] وكان عبد الحق الإشبيلي بالجزيرة من أجل علماء وقته ،
فرأى النبي عليه الصلاة والسلام وأمره بأن يذهب لأبي مدين ويقرأ عليه سورة الفاتحة
فقبل ، ثم لما انتبه تحير كيف يؤمر مثله بالذهاب لرجل لم يقرأ من القرآن إلا شيئاً
يسيراً من سورة الملك إلى آخر القرآن ؟ أمثلي يذهب لذلك مع كوني أحفظه كله بجميع
رواياته ومعرفة معانيه ؟! فقلت : إن كان له عمل فلنا بعض عمل ، وإن كان يقرأ الشئ
اليسير فنحن نقرأ الكثير فما السبب ؟ فجاءه بعض تلاميذه فأخبره ، فقال : اذهب بنا
إليه فما أمرك الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك إلا لسر ، فجاء إليه فما دخلا عليه
المجلس قال لهما : مرحباً بعبد الحق وصاحبه ثم قال يا عبد أدن مني وامتثل أمر
الرسول عليه الصلاة والسلام فدنا فقرأ حتى " إياك نستعين " فقال له :
فما بالك تذهب إلى الأمير وتترد عليه ! فجعل يعتذر فقال : لأجل هذا أمرك الرسول
عليه الصلاة والسلام بقراءة الفاتحة علينا .،