( العبد الذّاتي ) للإمام عبد الكريم الجيلي قدس الله سرّه :


اعلم أن الله تعالى لما أراد أن يظهر من تلك الكنزية المخفية وأحب أن أن يخلق هذا العالم الكونى لمعرفته. كما ورد فى قوله تعالى فى الحديث القدسى: (كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق).
وكانت الموجودات فى ذات التجلي الأزلي موجودة فى علمه أعياناً ثابتة، قد علم من قوابلها أنها لا تستطيع معرفة عدم النسبة بين الحدث والقدم، والمحبة مقتضية لظهروه عليه حتى يعرفه فخلق من تلك المحبة حبيباً أختصه لتجليات ذاته وخلق العالم من ذلك الحبيب لتصبح النسبة بينه وبين خلقه فيعرفوه بتلك النسبة. فالعالم مظهر تجليات الصفات، والحبيب صلى الله عليه وسلم مظهر تجليات الذات.
وكما أن الصفات فرع من الذات، كذلك العالم فرع عن الحبيب فهو صلى الله عليه وسلم واسطة بين الله وبين العالم.
والدليل على ما قلناه قوله عليه الصلاة والسلام: (أنا من الله والمؤمنون مني).
ولنا دليل آخر وهو قوله صلى الله عليه وسلم لجابر: (إن الله خلق روحه ثم خلق العرش والكرسى والعلويات والسفليات جميعاً منه).
وقد رتب خلق هذه الأشياء منه فى الحديث ترتيباً واضحاً لا إشكال فى أنها فروع له هو أصلها.
ويدل على ما أوردناه قوله صلى الله عليه وسلم: (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين).
لأنه يعلم من ذلك أنه كان واسطة بين الله وبين آدم، حتى ظهور آدم وكمل وجوده. إذ النبوة المحمدية إنما هى بقوة التشريع، وهى عبارة عن الوساطة بين الله وبين العبد. فتخصيص الحديث بذكر آدم دليل واضح بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واسطة بين الله وبين آدم، حتى بُعث آدم نبيا لأجل النسبة المحمدية. وإذا كان آدم معه تلك المثابة فما قولك فى ذريته. إذ ذلك من باب الأولى، ولهذا أخذ الله من أجله الميثاق على النبيين أن يؤمنوا به، وينصروه.
فقال عز من قائل: (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) .
وتنكير الرسول هنا للتعظيم باتفاق المفسرين لا لكونه غير معروف فضل قوله تعالى للأنبياء. (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) ، دليل على أنهم لم يدركوا الكمالات المحمدية بالكشف حتى تكون لهم مشهودة، وسبب ذلك أن الفرع لا سبيل له إلى أن يحيط بالأصل. فأخذ الله عليهم الميثاق أن يؤمنوا بكمالاته إيماناً بالغيب ليكون ذلك سبباً لهم إلى المفاوز الذاتية فيحصلوا بذلك فى مراتب الأكملية، ويلحقوا به لعلمه أنهم لا يدركون ذلك إلا بواسطة محمد صلى الله عليه وسلم.
وسَرُّ هذا الأمر أنه مظهر الذات. والأنبياء مظاهر الأسماء والصفات وبقية العالم العلوى والسفلى مظاهر أسماء الأفعال ما خلا أولياء أُمَّة محمد فإنهم كألأنبياء مظاهر الأسماء والصفات لقوله صلى الله عليه وسلم: (علماء أمتى كأنبياء بنى إسرائيل).
فإذا علمت أنه كان سبباً بين الله وبين أنبيائه فعلمك بكونه سبباً بين الله وبين الملائكة يكون من طريق الأولى لما ذهب إليه الجمهور: إن خواص بنى آدم أفضل من خواص الملائكة. فإذا صح أنه صلى الله عليه وسلم نسبة بين الله وبين خواص الإنس والملك.
فمن طريق الأولى أن يصح كونه صلى الله عليه وسلم نسبة بين الله وبين عوالمها. وبقية الموجودات عطف على هذين الجنسين.

فعلم مما أوردناه انه لو لم يكن صلى الله عليه وسلم موجوداً لما كان شئ من الوجودات يعرف ربه، بل لم يكن العالم موجوداً لأن الله ما أوجد العالم إلا لمعرفته. فلوا أنه علم من قوابلهم عدم المعرفة لعدم النسبة لما كان يوجدهم بل أوجد النسبة أولاً ثم أوجدهم من تلك النسبة لكى يعرفوه بها. ولو لم تكن النسبة لم يكونوا.
وإلى ذلك أشار الحديث القدسى فى قوله للنبى صلى الله عليه وسلم: (لولاك لما خلقت الأفلاك).
ولما كان صلى الله عليه وسلم علة لوجود العالم، وسبباً لرحمتهم، وواسطة بين الله وبينهم، وإنما كان له مقام الوسيلة فى الآخرة لأن الخلق توسلوا به إلى معرفة الله تعالى، وتوسلوا به فى الوجود لأنهم خلقوا منه وتوسلوا به فى كل خير ظاهر وباطن فهو صاحب الوسيلة.

( الرحمة للعالمين ) للإمام الجيلي قدس الله سرّه :



فى معرفة أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم هو النسبة التى بين الله وعبده :
قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) فاعلم أن هذه الرحمة هى التى عمَّت الموجودات جميعها، وإليه الإشارة فى قوله تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) يعنى أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم هو الواسع لكل ما يطلق عليه اسم الشيء من الأمور الحقية والأمور الخلقية. ولأجل ذلك ذكر تعالى فى آخر الآية فقال: (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ) تنبيهاً على أن من اتبع محمداً صلى الله عليه وسلم فى مقامه المخصوص به دون سائر الإنسان، فسوف يلحق بمقامه، وهو قوله: (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) أى: يصيرون رحمة.
علم أن الرحمة رحمتان: رحمة خاصة، ورحمة عامة.
فالرحمة الخاصة: هى التى يدرك الله بها عباده فى أوقات مخصوصة.
والرحمة العامة: هى حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم، وبها رحم الله تعالى حقائق الأشياء كلها، فظهر كل شئ فى مرتبته من الوجود، وبها استعدت قوابل الموجودات لقبول الفيض والجود.
فلذلك: أول ما خلق الله روح محمد صلى الله عليه وسلم كما ورد فى حديث جابر رضى الله عنه، ليرحم به الموجودات الكونية فيخلقها على نسخته، ويستخرجها من نشأته. فخلق منه العرش، والكرسى، وسائر العلويات والسفليات لتكون مرحومة به، إذ هى من نشأته الكريمة مخلوقة على أُنموذج نسخته العظيمة.
ولذلك سبقت رحمة الله تعالى غضبه، لأن العالم كله نسخة الحبيب والحبيب مرحوم، فحكم الرحمة فى الوجود لازم وحكم الغضب عارض. لأن الرحمة من صفات الذات والغضب من صفات العدل، والعدل فعل. وفرق كبير بين صفات الذات وبين صفات الفعل.
ولذلك المعنى تسمّى الله بالرحمن الرحيم، ولم يتسَّم بالغضبان ولا بالغضوب، وجاز أن تقول: أن الله لم يزل رحيماً ولم يجز أن يقال: إن الله لم يزل غضباناً، ولا غضوباً على الإطلاق. وسرُّ ذلك كله إنما هو سبق الرحمة الغضب لكون الوجود للحبيب كالمرآة للصورة، أو كالصفة للذات، أو كالبعض بالنسبة إلى الكل، فعمت الرحمة جميع الموجودات بسببه صلى الله عليه وسلم.
حَظِيتْ بِكَ الأكْوَانُ يَا خَيْرَ الوَرَى ... ... وَكَذّا الفُرُوعُ بِأَصْلِهِنَّ تَطِيبُ
أنْت الحَبِيبُ وَكُلُّها لَكَ نُسْخَةٌ ... ... ... وَجَمِيعُ مَا هُوَ لِلحَبيب حَبِيبُ

(( الرّقــيم ))



للسيد الشريف الحسني قدس الله سرّه

مِنْ نورِ مجلى العَمُوتِ مُحْيِّيَ العَدَمِ ** كلُّ المراتـبِ في بِـــــشْرٍ وفي كـــرم
قدْ أَسْفَرَ الوَجْــهُ يجلُو السِرَّ مُلْتَبِساً ** لِيَّـــلاَ تَسْطُو جـديـداً كَـرَّةُ العَــدَمِ
بُعَيدَ طَمْسٍ ودَمْسٍ شَمْسُهُ انْفَجَرَتْ ** وسِـــرُّهُ ههـــنــاك لازمُ الـــغَسَمِ
حَنَـــادِسٌ دُحْمِسَتْ كَــــنّـــاً بمكْـمَــنِـهِ ** ولم تَزلْ تُحـــتَلَكْ في كُـــنْهِـــهِ البَهِـــمِ
بَطْنٌ إلى مَـبْطَنٍ مَـرْقـــاهُ في الأَزَلِ ** ظَهْـــرٌ على مَـــظْهَـرٍ في نَزْلَـــةٍ تَـــدُمِ
نورٌ بَــدا حَيَّر الأسرارَ في الأُفُـــقِ ** كالشّمسِ شارِقـةٍ والكــلُّ كالــظُّلَمِ
مِــنْ دونِهِ حُجُبٌ كالشُّهْبِ فاتِكَةٌ ** سَبعِينَ ألفٍ مِـنَ الإشعاعِ مُضْطَرِمِ
إنْ كانَ حَوْطُ الحروفِ مُحْجِماً سَلَماً ** ولا مَـدًا يَـــعْتَرِيهـــا كــيفَ بالكَلِـمِ
أَعْـجِّزْ بها نـــقطـةٌ لم يـُــفْتَـتَقْ رِتْــقُهـا ** وإنّـــما نَزَلَتْ بـــالوَصْـــفِ تَرْتَسِـــمِ
فكونـُــهُ بَـــونُهُ وظَهْـــرُهُ بَـــطْنُـــهُ ** بـِــذَا وذا هُــوَ في لَـــبْسٍ وفي كَــتَمِ
هَـــوِيَّةُ الكُنْـــهِ مِـــنْ إِبهـــامِ مُضْمَرِهِ ** كالطَسْمِ رَقمـــاً لها وصَــوْناً كالحَـــرَمِ
إعجـــازُهُ رَمْـــزُ مَـــاللذَاتِ مِنْ عِـــزَّةٍ ** فآيُــهُ أُمِّـــيَّاتُ الأَيْــــدِيْ والقَـــدَمِ
وَاشْـــتَـــدَّ إِبهامُـــهُ لِغَــوْرِ إطـــلاقِـــهِ ** كمِثْلِ مَهْـمهَـــة الهاهُــوتِ في الأُشُمِ
مُـــزَّمِّـــلٌ بالـــعَمــا مُـــدَّثِّــرٌ بــالأنـــا ** أيُرْتَجـــى دَرْكُ مَـــن بالسُّبْحِ مُلْتَـثِمِ
ماالسّرُّ ما الجُّبُّما الــرَّقيمُ ما الحُجُبُ ** وَكَهفُهُ مَصْدَفُ الكُــنوزِ مِــنْ قِــــدَمِ
فحَضرَةُ القُدْسِ مِـنْ غُيُوبِــهِ ارْتَقَمَتْ ** بَلْ هِيَ غَيضٌ مِنْ فَيضِ بَحرِه الغِطَمِ
والنُّـــورُ والمجْلى والإنزالُ والأَثَــرُ ** إلاَّ وَمِيضٌ بـدا مِنْ وَجْـهِ ذي الكَرَمِ
سَلِ الأَنَا سِرُّهُ لهُـــوَ مِــنْ هُـــوِّهَا ** فهِيَّ مَجْــــلاً وللسُّـلطانِ كالحَشَــمِ
وَسَلْ مَـــقاعِدَ عِـزِّ أَهـــلِ حَــضْرَتِهِ ** هَلْ عنـــدَكُم خِـــبرةٌ تَهْـــدِينـــا للقِمَــمِ
تُـنْبِيك صـــادِمَةُ الأسمـــاءِ في الأُفُـقِ ** والكونُ دُونـَهـــا في الإِمْكـانِ كالـرِّمَمِ
أعْمَى العَمَا كيفَ سِرُّ السّرِّ يُجْـــلَى لنَا ** لوِ انْجَـلَـى لانْمَـحَـتْ أَنِـيَّـةُ الـرُّسُمِ
غيبُ الغيوبِ فأهلُ الغيبِ هُمْ مَعَهُ ** كـنـافخٍ في السَّمَا مِـنْ أَرْضِهِ بالفَـمِ
أيُدْرِكُـوا سِـدْرَةَ الـمَنْهَى ومَحْتِدَهُمْ ** بلْ إنَّ إدرَاكَـهُـمْ لـه مِـنَ النِّــعَـمِ
سَـوابِقُ العَـزْمِ رُخِّصَتْ عَـزائِمُهـا ** أَضْـنَـاهُمُ الـبَّرُ كـيفَ بـالمحيـطِ الطَّـمِ
لا خُـبْرَ عـنْ بـادِ بـادٍ عَـزَّ مَبْدَئُهُ ** فـأنّى أنّى لـهُـــمْ نِهـــــايةُ القَـدَمِ
سبحـانَهُ وَهْـوَ في العَمـا يُنازِلُنَا *** قَـدْرَ القـوابِـلِ مِـنَّـا كَـيْـلاَ نَنْـحَسِمِ
لو لمعةٌ بَرَقَتْ لاَنْدَكَّ مـــنها الورى ** وأَبْطَلَتْ عَـالَـمَ الإِمـكانِ والحِـكَـمِ
كَبِّرْهُ عـن كـونِنَــا وَاعْجِبْ بِهِ بَيْنَنَا *** فالجُـزءُ حينَ تَجَـلّي الكـلِّ لَـنْ يَقُـــمِ
ونَزِهَنْـهُ عَـنِ التَّـوْصِيفِ و النُّــزُلِ ** والحـدِّ والنِــــدِّ والتَّـقْيِّيْـدِ واللُّـــزُمِ
عَظِّمْ بِهِ الذَّاتَ إنْ رُمْتَ الشُّهُودَلَهَـا *** تَرَى العَـيَـانَ بِـلا شِرْكٍ ولاظُـلَمِ
فالعــينُ للـبَـينِ لاتُـبْقِيولاتَــذَرُ ** والوَجْــــهُ مـنهُ مِـثالٌ دَلَّ كالعَـلَمِ
والسـيرُ فيـهِ بِهِ مِـن نُورِ مَـعْلَقِـهِ ** والمنتهى حَـضْرَةُ الإيَّـابِ للخَـــدَمِ
والرُّسْـلُ فـيهـا عبيـدٌ سـادَةٌ للورى ** مابالُ مَنْ هُمْ مِنْ دُونِ هـــذهِ القَدَمِ
فمـن قـديمٍ وهُمْ رُضّــاعُ أسراره ** لم يَرْتَوُوا كـيـفَ والاَسْماءُ لم تُفْطَـمِ
أَعْظِمْ بِهِمْ مَسْلَـكـًا عُنْـوانُ ســــاقيِّهِمْ ** واعْجِـــزْ بهِمَتِهِـــمْ وَاقــدِسْ بِنَهْمِهِـــمِ
لم يَبرَحُــوا بُرْهَةً أَعتــــابَ حَـــضرتِهِ ** حـــاشــــاهُمُ وهُمُ الأقطــــابُ للقِسَــــمِ
والهــائِمُــونَ الكُـرُوبيــونَ مــــا وَلَهُوا ** إلاّ بتــــقـــديسِـــهِ ألــبــابُهُـــــمْ تَهِــمِ
طـاشُـوا بِبَرقٍ لهُ فكيف إنْ رَعَـــدَ ** لاَنْهَدَّ طَـوْرُ الأَنَا فَضْـلاً عنِ السَّدَمِ
فالحجْبُ مِن سُبُّحَات وجهِهِ بَرَقَتْ ** منهُ اسْتَدارَتْ على الأكـوانِ بالعِصَمِ
ومـا السّماءُ بمـنْ فيهـا ومَـن فَوقَــها ** والعـرشُ لمّـا اسْـتَوى عليـــه لمْ يَـقُــــمِ
ونونُـهُ تَحـوِي أسرارَ القَضَـا والقَــــدَرْ ** واللّـوحُ تَسْتَمْلِي مِـنْ عَلْيَــاهُ بالقَــلَمِ
فـالأمـرُ مـاشاءَهُ بِكُنْ يَكُـونُ بِهِ ** والخلـقُ مــــنهُ لهُ يحيَــونَ في خِــدَمِ
لوْ زالَ إمــــدادُهُ في لحظـَــةٍ فـــالفَنَــــا ** كـَـوْنٌ بِــلا نُورِهِ ضِفْــــهُ إلى العَدَمِ
فسرُّهُ كـــامِنٌ سَــارِي لَطِيفٌ خَفِي ** يَسْقِي الورى كـلـَّهُمْ بالكــلِّ للرَّحِـــمِ
مِـنْ قُـرْئِـهِ ارْتَقَـمَ القُـرآنُ مُرتَـــتِقاً ** ومـــنه فـــرقـانُهُ بالفَـــــتْقِ يَنْتَجِـــمِ
وهـذهِ بُكـرَةُ الجِـنَـانِ لمْ تُـفْتَضَضْ ** وإنـــّما هــنّ بعضُ البعضِ في الكَـرَمِ
والرَّقَّـا مـا دونَ مَـرْقـاهُ لقَـدِ اتَّـقَـى ** وسِــدرَةُ المنتهى انْتـَهَتْ عنِ القَحَمِ
يَسْبَحْـنَ في نُــورِهِ كـالذَرِّ في فَلَكٍ ** مـــنهُ بِهِ فيــــهِ بَلْ وَســــائِرُ الأُمَمِ
عـــوالـمٌ قــدْ عَلَتْ بِهِ لِنَشْــهَــدَهُ ** لَمَّـا نراهــا نَقُلْ سُبحـانَ ذِي العِظَمِ
وهــكـذا كلُّ مــا سَـيَبْـــدُوا من أَثَرٍ ** ليسُــوا سِــوَاهُ كأجــزاءٍ منَ القِسَمِ
آبــادُنــا لحظـــةٌ مـنْ دَهْرِهِ الأَزَلِي ** كـــقَطْــرَةٍ مـنْ مُحيطِ بحـــرِهِ الجَمـِمِ
فــأيّـُــمَـــــا نزْلَــــةٍ يَحــلُّهــــا جَلَلٌ ** قــدْ أَعجــزَ الكــلَّفي نزولِـهِ الفَحِــمِ
نوامـسُ الجـبروتِ طَــرْزُ أعــلامِهِ ** وسُرْدُقُ العِـزِّ دُونَ مَجْـــدِهِ يرْتَمـــي
فـــالفَخْـــرُ أعـــتـــابُـــهُ وإلاَّ لاَ كَـــرَمٌ ** والمُـلْكُ خِـــدْمَــتُهُ إنْ رُمْتَ تَـقْتَرِمِ
ونَـــعْلُهُ رَفْـــرَفُ المعــراجِ والإِدِّنَــــا ** هَا دُونَكَ المجــدُ فـــالتَـثِمْـهَـــا تَـسْتـَلِمِ
جــمالُهُ اعْشِـقْ بِهِ إذْ للعوالي سَبَى ** وَهُـوَ عَـــينُ البَهَاءِ السّارِي في النَّسَمِ
وعــزُّهُ ارْهَبْ بِهِ فــالنّـــارُ كــالقَبَسِ ** بَلْ سَطْوَةُ الحُجْبِ مِنْ حُمَّاهُ تَصْطَلِمِ
أمّا الكـمالُ بِهِ فـاعجِــزْ وعَظِّـمْ وحِرْ ** فَـــدَوْلَةُ العَظَمُوتِ القُــدْسِيْ كالخَــدَمِ
دَعْ عَنكَ قِيلَ رَوَى فَسِرُّهُ اسْتَتَرَى ** وحَتّى نُـورُ العُلُومِ دونه يعتمِي
أَتُــــدْرَى غـــايَةُ مَــنْ لازالَ مُــرْتَقِيّـًـا ** تَحَــقُقــًـا مُـــطْلَقــًا بِقَــــدَمِ القِـــدَمِ
فالُّبُّ في غَيَبٍ والكشـفُ في حَجَبٍ ** والسَّمعُ في صَمَمٍ والنُّطْــقُ في بَكَـــمٍ
والرُّوحُ والسّرُّ في تِيــهٍ وفي وَلـــَهٍ ** والوَصْلُ كالفَصْــلِ في لَجْمٍ وفي أَجَمِ
فـــالكـلُّ يَنْظُــرُ لكــنْ لا بَصــــيرَ بهِ ** سَيَّـــانَ مَـشْهَــــدُهُ وحـــالَةُ العَـــدَمِ
نــوَازِلُ النُّــورِ أُلْبِسَتْ لِنَـلْـحَـــظَهُ ** إلاَّهَــا لانْصَـــدَعَ الإمكـــانُ بالصَّـدَمِ
أَوْلَى بـــآثـــارِهِ ضَـــــلالةٌ دُونَـــهُ ** فالقَصُّ لا يَهْدِي عنــدَ غَيبَــةِ القَـــدَمِ
ليسَ كمثلِهِ شـــيءٌ عَــزَّ بارِؤهُ ** تَأَحَّـــدَتْ ذاتُـهُ مِــنْ دُونِ مُــزْدَحَمِ
وحيثُ لاغـــــايــةٌ للقـَـــدْرِ لا مُــنْتَهى ** إذًا فقُـــلْ عَجْـزُنا عَــينٌ لِدَرْكِ العَــمِ
لكــــنّـَــهُ وَهْـــوَ في العُـلَــى لهُ نُزُلٌ ** إعجَــبْ بـــإطْـــلاقِــــهِ الذاتيِّ يَعْتـَـلِمِ
له اســــتـــواءٌ على أهــــلِ الـــوِدادِ لهُ ** تعـــالى مَـــنْزِلُـهُ حتّى عَـن القممِ
أهلُ الشُّهـودِ لهُ قـــدْ شـــاهَــــدُوهُ بِهِ ** مِنْ بعدِ ما اتَّحَدُوا قدْ صارُوا كالحُرُمِ
بقـَـــدْرِ عِرفــــانِهِ تَـسَــــامَتِ الرُّتُبُ ** فـــالعــارفُــونَ بِـــــــهِ أَدْرَى بربِّهِــــمِ
لسْتَ تَرَى عـــــارِفـــــًا إلاّ بِهِ أَوَلاً ** وإلاّ فــــارْمِــــهِ بــــالتَّسْفِـــيــــهِ وَاتَّهِــــمِ
دِلالَةُ الرُّسْــلِ عــــنــــهُ كَــيمـــــا نَعْرِفَــهُ ** لأنَّــــهُ العــلَّةُ الأخـــــفَى لبَــعْثِهِــــمِ
مـــا غــــايَةُ النَــــثرِ للدُّرِّ المكـــنَّزِ بِه ** إلاَّ التَّعَـــرُفَ عنْ مَــقامِهِ الشَمِــمِ
فــــاعْلِقْ بِهِ كيما تَفْنَى فيهِ مُتَّحِـــدًا ** فتَبْقَى عــنـــهُ لهُ بالعَــــينِ تَتَّسِـــمِ
فتَشْـهَـدَ العـــينَ لا بَـــينٌ هناك يَذُدْ ** إنَّ التَّعَلُــــقَ نورٌ يَهْــــدِي كـــلَّ عَمِ
بنُـورِهِ اشْهَـدْ مُعَمَّاهُ ولاَ بالسِّوَى ** فـــلَمْ يَرَاهُ سِـوَاهُ بَـــلْ ولَمْ يَحُـــمِ
غَـيْهُوبَةٌ بُرْقِعَتْ صَـــوْنًا لأَرْوَاحِــنَـــا ** أمَّـا هُـــــناكَ فـــــبالكُثبانِ نَـــعْتَصِمِ
لولاَ تَـــدَلِّيْــــهِ في تَرْكِــــيزِ مَــشْهَـــدِهِ ** كـُــنَّــــا بِصُــوْرِيِّهِ نَــــفْنَــــا ونَصْطَــــلِمِ
النُّــورُ يُحْـــرِقُنَـا والسّرُّ يُغْرِقُــــنَــــا ** فإنّا في الفَرْقِ لن نَشُّـــمْ ولن نَشِــمِ
عَـــيْنِيَّةٌ قُـــدِّسَتْ فــالبَيْنُ أَيْنَ يَبِنْ ** وخَـــلْوَةُ الجَمْــــعِ في عَمًى وفي صَمَـــمِ
وليس كَــوْنُ الأَثَرْ بالَّــــذْ يُفَـرِّقُـــهْ ** فــوَصْـــلُهُ الأَزَلِيُّ غــــيرُ مُـــنْخَـــرِمِ
مِنْ يَومِ لا يومٍ امْـــتَـــدَّتْ عَــــلاقَتُــــهُ ** بالذّاتِ مَــوْصُـولَةٌ لَمْ تُـقْلَى مِن قِدَمِ
فــــلاَ لَهَـــا غَــيرُهُ بلْ لاَ لـَهُ غَـــيْرُهَـــا ** تَوَحَّــدَتْ وَمِــنَ الآزالِ لمْ تُفْصَـــمِ
ونَقْلَةُ الجِــسْــــمِ للرَّفِيــقِ أَبْـصِرْ بِهـــا ** تَهْــدِي إلى كــــنزِهِ المدفُونِ فاغْـتَنِمِ
بِكْـــرُ التَّجَـــلِّي ولاَزِمُ الوجـــودُ لنــــا ** خالٍ عـــنِ الكــلِّ في مَهَــامِـهِ اليـُتُمِ
تَجـــلَّى مـــولِدُهُ عـــنْ سِرِّ مَبْـدَئِهِ ** الأُمُّ فـــاضَتْ علينــــا مـــنهُ بـــالنِّــعَمِ
ومِنَّةُ الذّاتِ لَيْسَتْ كالصِّفاتِ فَقُلْ ** بُشرى لنـــا جَمْعُــــهُ الأمِّيِّ لــلأُمَمِ
قِفْ قَـلَـمٌ وَانْطَوِي يَا أيّـُها الوَرَقُ ** فمَــــدْحُهُ أَعْجَـــزَ اللَّوْحَ مَـــعَ القَـــــلَمِ
فإنّــــما قَصْـــــدُنا وإنْ أَسَـــأْنَــــا بِــــهِ ** الرَّوْحُ للرُّوحِ والإِيْــــقاظِ للهِمَــــمِ
سُبحانَ ربِّكَ عن وَصْفٍ مِنَ الحَدَثِ ** فليسَ يَــدْرِيكَ غَـيرُ وَاجِبُ القِدَمِ
غـُــفرانَ ربِّكَ مِنْ تَجَـــرُئي مَحْـــتِدِي ** فــأنتَ فــوقَ الذي نُفْشِي ونَرْتَـــقِــمِ
حَمــــدًا لربِّك يــــا مُمِــــدَّ هــــذا لنَـــــا ** ولَسْنـَـــا أهْــلاً فحــقـًّا أنـتَ ذُوالكَـرَمِ
يا مُستـــوى نَزْلَةِ الهُـــوَّ وطَورِ العَما ** يــا مَــن تَفَضَّلْتَ بـــالتَــــدَلّي في فَخَمِ
يا مجلى عَــينِيةِ الذّاتِ التي اكِتَنزَتْ ** أَفِضْ بِوَصْــلٍ وذاك غـايَةُ الهِمَــــمِ
بـــدَوْلَةِ الرُّسْلِ مَــنْ تَعَنْوَنُوا للورى ** ودَوْرِ أَمْــــلاَكِكَ المعَـــلَى بالخَــــدَمِ
وســـرِّفــــاطِمَــــةِ الجـَـــــلالِ والدُّرَرِ ** ونُــورِصَحْـــــبِ التَـــنَزُلاتِ كلِّـــهِمِ
وجــاهِ كــلِّ وَلِيٍّ حـــتّى لحْــظَتِنَــــا ** وَوَجْــهِ غَوْثِ الـــبرايَـــا خـاتِـمِ الكَلِمِ